أمن الصومال جائحةً إقليمية

أمن الصومال جائحةً إقليمية

14 فبراير 2023

مسلحون في مقديشو لمرافقة الزوار الأجانب (10/11/2022/Getty)

+ الخط -

غالباً ما كان يُشاع أن مسألة الأمن في الصومال بعد انهيار الدولة المركزية عام 1991، وارتداداتها العكسية، شأن داخلي فقط، وأن تردّي الوضع الأمني لا يعدو كونه مجرّد حمّى لا تنتقل عدواها إلى دول المنطقة، فكان الاحتراب الأهلي السمة الأبرز في هذا القطر عقودا، بل كانت دول إقليمية، يعرفها القاصي والداني، تغذّي هذا الصراع بمدّ السلاح ببعض رجال الحرب، وتحوّلت البلاد إلى ساحةٍ لتصفية حسابات إقليمية لتنفيذ أجندات دولية للنيْل من شخصيات محدّدة أو جماعات سياسية معارضة لأهدافها تجاه بلد ممزّق يعاني من إرث تراكمات سقوط الدولة. ولم تكن المخاوف متجذّرة بشأن إمكانية تمدّد ألسنة النار المشتعلة من البيوت الخشبية إلى دول الجوار، كما أن الحرب بالوكالة التي تنفذها دولٌ إقليمية بضوء أخضر من قوى دولية، خصوصا الولايات المتحدة، كان هدفها، بالدرجة الأولى، منع وصول جماعات سياسية معارضة لسياسة خارجية إقليمية ودولية مشتركة رسمت معالم توجّهها الخارجي تجاه الصومال، في غياب اهتمام عربي بمعالجة مأزق الصومال الذي تُرك ساحة خالية لممارسة تلك الأجندات الإقليمية والدولية.
وبعد نحو عقدين من تمحور الصراع بين الحكومات الانتقالية والفيدرالية من جهة وحركة الشباب المرتبطة بالقاعدة من جهة ثانية، بدأ هذا النزاع يأخذ أبعاداً جديدة، بوصول تأثيرات الحرب وتداعياتها إلى عواصم تلك الدول الإقليمية المجاورة للصومال، خصوصا كينيا وإثيوبيا وجيبوتي، وهي الدول التي أرسلت قواتها إلى مقديشو بهدف مشاركة عملية بعثة حفظ السلام الأفريقية منذ عام 2007. ولم تكن تلك الدول ترغب أولاً الانخراط أكثر في جلب الأمن للصومال ومكافحة المتمرّدين، بقدر ما كان انضمامها إلى هذه العملية من أجل تحقيق أهداف اقتصادية، والحصول على مخصّصات مالية مقابل مشاركتها في عملية الاتحاد الأفريقي، وتدريب القوات الصومالية واستضافة مؤتمراتٍ تخصّ الشأن الصومالي، لكن تنامي نفوذ حركة الشباب في السنوات الخمس الأخيرة، وتنفيذها هجماتٍ نوعية في كل من كينيا وإثيوبيا، بعث هذا التطور رسائل مقلقة، مفادها بأن أمن دول الجوار بات من ضمن بنوك أهداف الحركة التي حقّقت صعوداً ملحوظها بفرضها ضرائب (إتاوات) على السكان المحليين، وتجمع شهرياً ما يقارب 15 مليون دولار، لتصبح أقوى فرع لتنظيم القاعدة وفق تصنيف الجنرال ستيفن تاونسند القائد السابق للقوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم).

بدأت دول الجوار (كينيا جيبوتي إثيوبيا) تتحرك أخيراً لتخطيط تحرك عسكري فوري، بهدف القضاء على حركة الشباب

هذا الحضور الميداني للحركة أعطاها زخماً محلياً وإقليمياً، لكن هذا الصعود المفاجئ لم يكن على حساب الحركة، بل انعكس سلباً عليها، وبدأت تدفع ثمناً باهظاً من جرّاء تزايد هجماتها الانتحارية في أنحاء متفرقة من دول المنطقة، بعد ضرب قوتها العسكرية والميدانية من العمق، من الجيش الصومالي الذي يتحرّك في أكثر من اتجاه، وحقّق انتصارات عسكرية في طرف قياسي، بعد طرد مسلحي الحركة من ولايتين (وسط الصومال) بشكلٍ شبه كامل، وفقدت جيوباً استراتيجية وحيوية، منها مدن ساحلية كانت تدرّ على خزينة الحركة أموالاً باهظة، ومركز ثقل عسكري وتدريب وتنقلات لأفرادها، وهو ما كشف عن مدى ضعف تكتيكات "الشباب" القتالية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بدخول مواجهات مباشرة مع الجيش الصومالي الذي يستعين بمسلحين من العشائر يعرف عليهم محلياً بـ"المعاويسلي"، هذا فضلاً عن ضربات جوية تنفذها مسيّرات أجنبية (بيرقدار2 وأميركية) ما قلَّب موازين القوى لصالح الجيش الصومالي.
ولعل الشعور المتنامي إقليمياً من خطورة تمدّد هجمات حركة الشباب، رغم ما تتعرض له من هزائم عسكرية متلاحقة بيد الجيش الصومالي، هو ما جعل دول الجوار (كينيا جيبوتي إثيوبيا) تشاطر هذا الخطر الأمني مع حكومة مقديشو، وتتحرك أخيراً لتخطيط تحرك عسكري فوري، بهدف القضاء على حركة الشباب، أو إضعافها عسكرياً وميدانياً في المرحلة الأولى، ومن ثم تدريجياً تموت الحركة ببطء وعلى نحو تدريجي بسبب ما تعانيه من تصدعات داخلية وتراجع عسكري وفقدانها مصادر تمويل أساسية بعد حجب 250 حساباً بنكياً تمول الملايين من الدولارات من قبل الحكومة الصومالية وفرض عقوباتٍ ماليةٍ عليها من الخزانة المالية الأميركية، وطردها من مناطق شاسعة في حدود خمسمئة كيلومتر وسط البلاد، كانت تجمع أموالاً ضخمة شهرياً لتمويل أنشطتها العسكرية، كما يهدف هذا التحرك الإقليمي الذي احتضنته مقديشو مطلع فبراير/ شباط الجاري إلى دعم الصومال في مسعاه الأخير لرفع حظر السلاح المفروض عليه من مجلس الأمن، والتنسيق الأمني بين الصومال وجواره الإقليمي لضمان أمن الحدود، ومواجهة الحركات المسلحة الخارجة عن القانون.

سياسة "إما أنا أو التراب" مهلكة، ولم تورّث الصوماليين سوى عذابات البارود وطعنات الرماح عقودا طويلة

ثمّة مسائل عالقة أخرى في الصومال غير اضطراباته الأمنية والسياسية، وتتعلق بالحوكمة الرشيدة وفرض الاستقرار السياسي الداخلي ومواجهة غول الفساد، واستكمال الدستور المؤقت والاستفتاء عليه، وترتيب الجيش الصومالي، وتغليب المصلحة العامة على المصالح القبلية والفئوية، إلى جانب التفكير خارج الصندوق بعمق، ماذا وراء بعد توسيع رقعة الدولة في مناطق سيطرة حركة الشباب خاصة في الجنوب وفي الأقاليم التي تخضع لسيطرة الحركة حالياً؟ فالحملة العسكرية التي يجريها الجيش الصومالي حالياً متقطعة، ووقود نارها هي المشاعر الجياشة من العشائر التي عانت من بطش حركة الشباب، ورغبة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في إنهاء نفوذها. وتحتاج هذه الحملة إلى تنسيق وتنظيم كبيرين قبل بدئها أو إعلانها، ما يكشف حقائق مفادها أن تحجيم دور حركة الشباب في ظرف عام ضرب من الخيال، ومع كل توقف للعمليات العسكرية تتنفّس الحركة وترتب صفوفها من جديد لتغير على قواعد عسكرية للجيش لإثبات وجودها وقوتها الضاربة برغم ما تتعرض له من ضربات عسكرية مميتة لم تشهدها من قبل، وهي التي جعلتها حركة حبيسة لا تستطيع التواصل مع الخارج، وأصبحت بين فكي كماشة.
اللافت أن انتصار رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد على جبهة تحرير تيغراي وإنهاء العنف بعد عامين من الاقتتال في اتفاقية سلام تاريخية وقعت بين الأطراف الإثيوبية في جنوب أفريقيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، خطوة ربما تشجّع القيادة الصومالية على التحرّك الفعلي في مواصلة الضغط عسكرياً على حركة الشباب، وإجبارها على التفاوض مع الحكومة الفيدرالية، رغم أن "الشباب" فنَّدت ما تداولته وسائل إعلام صومالية أنها اقترحت دخول مفاوضاتٍ مع الحكومة الفيدرالية بعد تضييق الخناق عليها عسكرياً ومالياً، لكن خيار التفاوض من "الشباب"، وإن كان مطروحاً أصلاً مع حكومة مقديشو، يبدو أنه ليس أولوية حكومية، فالحسم العسكري في مواجهة الحركة هو الطاغي حالياً، بحكم أن البيئة الصومالية لا تعرف حلّا وسطا لإنهاء أزماتها وحروبها المستعصية على الحل منذ نحو أربعة عقود، فسياسة "إما أنا أو التراب" مهلكة، ولم تورّث الصوماليين سوى عذابات البارود وطعنات الرماح عقودا طويلة، ما أباد أجيالاً بأكملها في صراعات لاغالب ولا مغلوب فيها.

دول المشرق الأفريقي تدرك جيداً أنها بين تجارب داخلية للحكم صعبة ومريرة في آن واحد وفي خضمّ أزمات بيئية وأمنية واقتصادية تثقل كاهل اقتصاداتها

في المحصلة، ثمّة أهداف مشتركة لدول الجوار مع الصومال، في مقدمتها احتواء التهديدات الأمنية، وتحديداً القادمة من حركة الشباب وتنظيم داعش، لكن ما يفرق تلك الدول كثير، فوجود سياسات متضاربة وأهداف اقتصادية متناقضة ومختلفة بين دول الجوار تجاه الصومال، يعقد الأوضاع في التوصل إلى تفاهمات حقيقية بين دول القرن الأفريقي التي تشهد تدافعاً متزايداً مع رغبة القوى التقليدية فيها، إزاحة نفوذ معسكرات صاعدة، مثل روسيا والصين وتركيا، ما يجعل التدافع نحو الصومال وإثيوبيا وجيبوتي في منزلة معركة "كسر عظم" في المرحلة المقبلة، وربما زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أفريقيا هي الثانية له في غضون أشهر قليلة، تكرّس رغبة الكرملين في ليِّ أذرع واشنطن وحلفائها من الخلف ومواجهتها في عقر دارها ومناطق نفوذها، وملء الفراغ الفرنسي في القارة، وهو ما يجعل قيادات دول المشرق الأفريقي تدرك جيداً أنها بين تجارب داخلية للحكم صعبة ومريرة في آن واحد وفي خضم أزمات بيئية وأمنية واقتصادية تثقل كاهل اقتصاداتها، إلى جانب صعوبة مواءمة سياساتها الخارجية وموازنتها في اختيار شركائها وحلفائها، وهذا كله وسط تحوّلات متغيرة في أفريقيا وتحديات متزايدة كالفطر تفكّك تحالفات تقليدية، وعلى أثرها تتشكّل أخرى جديدة لتملأ الفراغ، بحكم منطق أرسطو، أن الطبيعة تكره الفراغ.

3F6C2AC1-09AD-4357-AA15-D946B74B0C95
3F6C2AC1-09AD-4357-AA15-D946B74B0C95
الشافعي أبتدون

كاتب وإعلامي وباحث صومالي

الشافعي أبتدون