أجيال وتكنولوجيا

أجيال وتكنولوجيا

21 اغسطس 2023
+ الخط -

تعاني معظم الأسر في زمننا أزمة تواصل حقيقية بين أفرادها، وذلك نتيجة حتمية لثورة الاتصالات التكنولوجية التي قلبت حياتنا في سنوات قليلة، فغدا التواصل بين أفراد الأسرة الذين يعيشون تحت سقف واحد في حدّه الأدنى، إذ إنّ كثيرين منا باتوا مُختطفين إلى عوالم افتراضية تستهلك طاقتهم، وتأتي على مهاراتهم الاجتماعية، وتعزّز لديهم روح الانفصال عن الواقع، ليظلّ منغمساً طوال يومه في عالمه الخاص المنعزل عن محيطه، غير راغب في الانخراط الفعلي في تفاصيل الحياة، مكتفياً بمتابعة قصص مفتعلة عن حيواتٍ تبدو ناجزة مثالية، يعيشها نجوم السوشيال ميديا، وتصل إليه تفاصيلها المبهجة، فيتماهى معها من خلف الشاشات. كذلك، من دون أن يحرّك الواحد منا ساكناً، بإمكانه، وهو متسمّرٌ فوق أريكته، تسديد الفواتير والتسوق وإنجاز المعاملات وعقد الصفقات وإجراء مقابلات العمل وحجز تذاكر السفر وإقامة العلاقات العاطفية والقيام بكل الواجبات الاجتماعية من مشاركة في الأفراح والمناسبات الحزينة باستخدام إشارات الإيموجي من دون الاضطرار حتى إلى استخدام المفردات. 
وتؤكّد الدراسات تراجع الدور التربوي للعائلة والمدرسة، وتضاؤل سلطة الأبوين لعجزهما عن مواكبة التطوّر التكنولوجي الهائل الذي أصبح سمة العصر، ما يجعل الأبناء في مرحلة معرفية متقدّمة على والديهما اللذين كانا في زمن ليس بعيداً المصدر الأهم لاكتساب المعرفة والحكمة والخبرة وتشرّب الأخلاق والمفاهيم والقناعات المختلفة، فلم يعد الولد سرّ أبيه والبنت "لم تعد تطلع لأمها"، بل صار بونٌ شاسعٌ وخطيرٌ، لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه ما بين الآباء والأبناء. وبدأت بذور الصراع والتفكّك تلقي ظلالها على أشكال المنازل، وقد هُجرت غرف المعيشة فيها، ولاذ كلٌّ في حجرته، محتضناً هاتفه الصغير، مُبحراً في شبكةٍ متراميةٍ تأخذه إلى أقاصي الدنيا وتُبعده عن أقرب الناس.
تضجّ، في بعض البيوت، أصوات الأمهات، وهنّ يدعون أولادهنّ إلى الموائد اللواتي تعبن في إعدادها، توقاً منهنّ إلى لمّة العائلة الجميلة، حيث تبادل الأحاديث والأخبار والاستماع إلى الآراء واندلاع الشجارات أحياناً التي هي من أشكال التواصل أيضاً. الآن، في معظم البيوت، يقفز الأولاد مستعجلين، يسكب كل منهم صحنه، ويتوارى سريعاً في حجرته، خشية أن يفوته "تريند ما" على الشبكة العنكبوتية، فيما يعتري الحزن الوالدين، وهما يشعران بابتعاد الأبناء، بل استخفافهم بأهمية العلاقة الصحّية مع الأهل، رغم تخلفهم التكنولوجي. 
هناك مَن قد يرى في ما سبق هجائية جائرة لمظاهر التقدّم هذه، غير أنها مجرّد صرخة تحذير لنا جميعاً، كي نستيقظ من هذا العمى الجماعي الذي انزلقنا إليه، غير مدركين آثاره السلبية الكبيرة التي ندفع ثمنها اغتراباً وانفصالاً وتوحّداً وخراباً لمنظومة العلاقات الأسرية، وقد تحوّلت فكرة البيت من الدفء والأمان والحب والمشاركة والاكتراث إلى مجرّد مكان يؤوي مجموعة من الغرباء، لا يجمعهم سوى الاسم الأخير، يتواصلون فيما بينهم باقتضاب، ولا يكترث الواحد منهم إلا بنفسه. 
يشكو كثيرون من الأهل فشلهم في التعاطي مع الأبناء، في سنّ المراهقة على وجه الخصوص، ومن عجزهم عن إيجاد مشتركاتٍ فيما بينهم، ومن عدم القدرة على لفت انتباههم إلى ما يدور خارج إطار الشاشات، وقد سلّموا بأنّ هذا الجيل المتقدّم تكنولوجياً أصبح بالمطلق خارج تأثير العائلة، وصار فريسة لمفاهيم وأفكار غريبة عن بيئته، وبات مدمناً بالمعنى الطبي، ما يتعيّن على المختصّين البحث في سبل التخلص من هذه الآفة التي التهمت العقول، وما زالت تتغذّى عليها على مدار اللحظة، أو بحدٍّ أدنى التخفيف من آثارها السلبية وترشيد الاعتماد عليها، إنقاذاً لما بقي من إنسانيتنا ومن فرصتنا الوحيدة لاختبار الحياه بعيداً عن الأزرار فقط، بحواسنا البدائية الأولى، إذ يكمن جمال الحياة وسرّها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.