الفرمونات البشرية

الفرمونات البشرية

13 فبراير 2016
صورية رمزية (getty)
+ الخط -
كان مصطلح "الحامل الاجتماعي" للقضايا الكبرى، من المصطلحات الأثيرة التي راجت في الوسط الثقافي العربي. ففيما كانت الطبقة الوسطى هي الحامل الاجتماعي للقضايا الوطنية والقومية، كانت طبقة العمال والفلاحين هي الحامل الاجتماعي المفترض للاشتراكية وإعادة توزيع الثروة.


ثم تطور المصطلح في ما بعد ليصبح "الحامل الأهلي" ومن ثم "البيئة الحاضنة"، وأصبح خاصاً بطرف، بعد أن كان مرتبطاً بقضية. ففي سورية ما بعد الثورة، بدأنا نسمع عن الحامل الأهلي للثورة ولاحقاً للجيش الحر، وكان المقصود به أرياف العرب السنة وعشوائيات وهوامش المدن الكبرى، وكذلك الأمر عن البيئة الحاضنة للنظام والجيش السوري، والتي شملت مناطق الأقليات مع مراكز مدينية.


تفترض طريقة التفكير هذه وجود كتلة متراصة، واعية لذاتها ولتمايزها عن غيرها، لديها عقل جماعي وجملة عصبية منّظمة، وتقودها نخبة هي بمثابة دماغها.
التداخل متشابك بين المفهومين السابقين، فالطبقات موجودة عند جميع الحوامل الأهلية وإن كان المفهوم الأول اقتصاديا اجتماعيا والثاني هويّاتيا، وقد توافرت دوماً نخب مثقفة تعزو أي حراك سياسي أو اجتماعي بدلالة التموضع الخاص بأحد المفهومين.


وإذا كان المصطلح القديم الخاص بالطبقات فقد بريقه، وأضحى مدعاة للسخرية حتى عند طيف واسع من المثقفين ممن طرحوا تساؤلات محقة عن قتال فقراء الطوائف ضد بعضهم البعض، وعن معنى الكلام حول الطبقة الوسطى الآيلة للزوال مع الانزياح الواسع لأغلبها باتجاه خط الفقر. فإن مصطلح البيئة الحاضنة يشهد رواجاً اليوم؛ فعلى خلفية التحريض المذهبي السني – الشيعي في حروب العراق وسورية واليمن، يتم التصويب على السنة كبيئة حاضنة للإرهاب، وعلى الشيعة كجيوب تتبع إيران ضد مصالح أوطانها. ورغم الرواج الحالي لهذا المصطلح إلا أنه ليس مستبعداً أن تلحقه السخرية لاحقاً كما سابقاته، باعتبار أن فكرة البيئة الحاضنة يضعفها عدم شمولها لمجاميع بشرية كاملة في المنطقة، لاتزال بمنأى عن الانخراط في هذا الصراع، كأنها ملقحة ضد هذا الفيروس.


أما الشحن العقائدي الموجود لدى أتباع العصبية الدينية، اليوم، فكان موجوداً أيضاً عند العصبيات القومية والحزبية سابقاً، وشعارات "الله أكبر" أو "لبيك يا حسين" مع الرايات السوداء والخضراء والصفراء. تثير اليوم من الحماس والتحريض ما كانت تثيره فيما مضى شعارات "سحق العملاء” و”اقتلاع الرجعية" مع الرايات الحمراء.


بل أن بعضاً من عقائديي وقوميي الأمس هم مذهبيو اليوم. ومشاهد القتل والسحل التي نراها الآن بين الحشد الشعبي وداعش حصلت بين الشيوعيين والبعثيين سابقاً في العراق، مع فارق الإمكانيات وتوافر وسائل التوثيق البصري. هي إذاً قابلية للعنف تظهر فجأة تحت تأثير إيديولوجيات متنوعة/ ترتدي لبوساً مختلفاً في كل فترة زمنية. يبدو الأمر أشبه بوجود نوع من "الفرمونات" البشرية التي تجعل الإنسان منساقاً مع غريزة القطيع. والفرمونات هي مواد كيميائية تفرزها الكائنات الحية في النوع الواحد بهدف إرسال رسائل كيمائية بين أفراد هذا النوع، بحيث تتناسب المادة المرسلة مع المادة المستقبلة، وبالتالي تشكل هذه العملية الكيميائية وسيلة نقل المعلومات بين أفراد النوع الواحد. يتميز مجتمع النحل باعتماده على هذه الفرمونات كوسيلة تعارف بين أفراد الخلية، بحيث لا يسمح للعناصر الغريبة بدخولها.


جرت محاولات علمية لتحديد ماهية هذه الفرمونات عند البشر، والاستفادة منها تجارياً، عبر التسويق لمنتجات محددة تنجذب لها هذه الفرمونات. لم تثمر هذه المحاولات بعد. ولا تزال شركات إنتاج العطور ومواد التجميل تموّل الأبحاث المتعلقة بها. تبدو العقلية التجارية وراء هذه المحاولات، وكأنها تتخطى سياقاتنا المحلية المتصارعة، فبينما تنظر للفرد كمستهلك محتمل يزيد من أرباحها، تبدو قيمة الفرد عندنا بوصفه جزءاً من عملية صراعية، بين جماعات لم يستشره أحد في زجّه بها.


المساهمون