جراح لا تلتئم... آخر الدواء لا يسعف مصابي الاعتداءات الإسرائيلية

جراح لا تلتئم... آخر الدواء لا يسعف مصابي الاعتداءات الإسرائيلية

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
25 يونيو 2023
+ الخط -

يبحث مصابو الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة المحاصر عن علاج لجراحهم التي لم تلتئم منذ أعوام، وحتى البتر لم يجدِ نفعاً بسبب نوعية الذخائر وتحورات البكتيريا الناتجة عنها والتي تقاوم أغلب المضادات الحيوية.

- لا يستطيع الثلاثيني خميس فوجو، من سكان مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة المحاصر، النوم طوال الليل، جراء الآلام الشديدة التي يعانيها، بعد إجرائه 18 عملية جراحية، من بينها 7 جرى خلالها بتر أجزاء من ساقه، في محاولة للتغلب على جرثومة عنقودية انتشرت مكان الجرح، الناجم عن إصابته برصاصة إسرائيلية متفجرة في يوليو/تموز 2018.

وتعتبر بكتيريا "المكورات العنقودية الذهبية (M.R.S.A)" من أخطر الأنواع ويمكنها إنتاج سلالات شديدة المقاومة للمضادات الحيوية، ومن بينها نوع يقاوم عقار "ميثيسيلين/Methicillin" الذي يستخدم في علاج الالتهابات البكتيرية، وهو أحد مشتقات البنسلين.

ويعاني أكثر من 99% من مصابي الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع من البكتيريا المذكورة، إضافة إلى أنواع أخرى تعرف بـ "إصابات متعددة الجراثيم"، بمعنى وجود "أكثر من جرثومة في آن واحد لدى نفس المصاب"  بحسب إفادة الدكتور ناهض اللحام، أستاذ علم الأحياء الدقيقة الطبية والجزيئية، في قسم الطب المخبري بكلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الأزهر في غزة.

حتى البتر غير مجدٍ!

تسببت إصابة فوجو في تهتك شديد في عظام فخذه، وعلى إثرها بترت القدم من أعلى الركبة، ثم توالت المتاعب، وكلما يتوجه للمستشفى يفاجأ الأطباء بصديد وعفن في قدمه جراء البكتيريا، ما يضطرهم إما لإجراء عملية تنظيف، أو بتر جزء من القدم.

وفي محاولة لإيجاد حل توجه إلى مصر مرتين، بعد منع الاحتلال له من العلاج في مستشفيات الضفة الغربية أو القدس، ليجري في القاهرة أكثر من عملية باستخدام الليزر ويزيل أجزاء من العظم، لكن الأطباء أبلغوه أن الرصاصة التي أصابت قدمه لم يعهدوها وتسببت في تسمم الجرح، ونمو بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، لكن المشكلة أن ما تبقى من ساقه لا يتجاوز بضعة سنتمترات، وبعد ذلك سيصل الجرح إلى مفصل الحوض العلوي.

يربط أطباء غزيون بين الجروح غير الملتئمة وأسلحة الاحتلال المحرمة

ومثل فوجو، عالج الجراحان جمال أبو هلال، استشاري الجراحة في مستشفى غزة الأوروبي، وأيمن أبو عبيد رئيس قسم الجراحة في مستشفى ناصر الحكومي، جرحى مسيرات العودة والاعتداءات الإسرائيلية منذ عام 2018 والذين وصل عددهم إلى 21 ألف جريح بحسب مركز المعلومات في وزارة الصحة بغزة، وأجمعا على وجود جروح لا تلتئم، أو تأخذ فترة طويلة جداً حتى تشفى، رغم اتخاذ كل الإجراءات، وتنفيذ كافة البروتوكولات الطبية المعمول بها عالمياً.

الصورة
فوجو
الجريح خميس فوجو أجرى 7 عمليات بتر لأجزاء من ساقه، في محاولة للتغلب على جرثومة عنقودية (العربي الجديد)

ويعاني 600 جريح من التهابات متكررة، ويحتاجون إلى متابعات طبية متواصلة، بحسب إفادات مركز المعلومات في وزارة الصحة بغزة و20 مؤسسة أهلية وحكومية.

ومن بين المصابين 158 حالة بتر، منهم 124 بترت أطرافهم السفلية، و4 تعرضوا لبتر أطراف علوية، كما تعرض 30 مصاباً لبتر أصابع يد وقدم.

فشل العلاج

منذ عام 2014 وحتى اليوم، لاحظ الأطباء أن ما بين 5 إلى 10% من جرحى الاعتداءات الإسرائيلية لا تلتئم جروحهم بسهولة وبعضهم استغرق شفاؤها أكثر من عامين، مع ظهور متكرر للبكتيريا على الجروح، بخاصة العنقودية، ما يضطر الطبيب لوصف مضادات حيوية بشكل متكرر، مع إجراء مزرعة تحدد نوع البكتيريا، ورغم ذلك تستمر معاناتهم، كما يوضح الطبيب وائل شقفة، اختصاصي الجراحة والمدير السابق للمستشفى الجزائري العسكري جنوبي القطاع، وهو ما أكده فوجو والذي أخذ جرعات قوية من المضادات الحيوية، شملت كافة الأنواع، منها ما هو وريدي ومنها ما يؤخذ عن طريق الفم، وكلها كانت تقلل من تأثير البكتيريا مؤقتاً، ولا تلبث أن تنشط من جديد.

الصورة
غزة2
ظهور بكتيريا شرسة تقاوم المضادات الحيوية يصعب شفاء الجرحى (العربي الجديد)

ويفسر الدكتور اللحام ذلك قائلاً: "لاحقاً تنجح بكتيريا هوائية ولاهوائية وعنقودية في بناء ما يشبه المستعمرات داخل الأنسجة المحيطة بالجرح، ومع الوقت وإعطاء المريض أنواعا عديدة من المضادات الحيوية، تصبح هذه البكتيريا شرسة، تقاوم أغلب الأنواع من المضادات الحيوية، وتتسبب بالتهابات وتآكل في العظام، وقد يضطر الطبيب لإجراء بتر، وربما يؤدي ذلك للوفاة، وعلاج الجرحى يحتاج إلى عزل الميكروب وإجراء اختبارات طبية معقدة، للأسف غير متوفرة في قطاع غزة، بسبب الحصار ومنع وصول الأجهزة الطبية".

ويقول الاستشاري أبو هلال، إن الحديث عن أخطار الأسلحة بشكل علمي يحتاج لدراسات يتعذر إجراؤها في غزة بسبب الحصار، لكن مع التجارب يلمس الأطباء أن هناك أثرا سيئا وظهور نسب تلوث عالية جداً على الجروح ينتج عنها إصابات بكتيرية معقدة، تتطلب إعطاء المريض جرعات مكثفة ومتواصلة من المضادات الحيوية، والاستجابة تكون ضعيفة في كثير من الحالات، خاصة الإصابات المعقدة والصعبة، وخلال عامي 2018 و2019، اضطر الأطباء لاستخدام نوع من الكلور الطبي (كلورايد الصوديوم/NaCl) كمطهر ومعقم لجروح مصابي الاعتداءات الإسرائيلية، في محاولة لتطهيرها، بعد تراجع قدرة المطهرات الطبية التقليدية على تأدية مهامها، جراء عمق تلوث الجروح والنسب العالية.

بدوره، يقول الدكتور فضل نعيم، استشاري جراحة العظام، وعميد كلية الطب بالجامعة الإسلامية بغزة سابقاً، إنّ نقص المعدات، وغياب المختبرات المتطورة القادرة على كشف تركيبات الأسلحة الإسرائيلية يحيران الأطباء، وفي كثير من الأحيان يضطرون لبتر أجزاء من طرف المصاب في عدة عمليات جراحة على فترات زمنية متلاحقة، للسيطرة على الحالة، للحد من تغلغل البكتيريا في الجروح، ولمنع تشكل إصابات بالغرغرينا القاتلة. يضيف: "لاحظنا أنواعاً من البكتيريا والميكروبات شديدة المقاومة للعلاجات، على جروح مصابي الاعتداءات الإسرائيلية، وهذا يثير شكوكاً حول استخدام الاحتلال ذخائر جرثومية".

ممَّ تتكون الذخائر الإسرائيلية؟

يشرح خبير الأسلحة والذخائر في شرطة غزة الرائد محمد مقداد، مكونات الذخائر الإسرائيلية المتفجرة سواء الرصاص أو القذائف والصواريخ، قائلاً: "تحتوي على مادة التروتونال، وتتكون من مادتين أساسيتين تي إن تي TNT، ومسحوق الألمونيوم، ولحظة الانفجار ينتج عنها اتحاد المادتين نسب عالية جدا من أول وثاني أوكسيد الكربون، يكون إما على شكل غاز أو رذاذ متطاير، من السهل التغلغل في الجروح".

ويتفق الأكاديميان نعيم واللحام على أنّ الكربون أحد أخطر المكونات الكيميائية، فهو غاز سام، يعمل على نشر التلوث بصورة كبيرة حول الجروح وعلى عمق في الجسم، خاصة الجروح القطعية والكبيرة، ما يجعل التعامل معها معقدا، ويصعب وصول المضادات الحيوية للجروح والخلايا، كون الكربون يشكل ما يشبه المادة العازلة، وبالتالي يوفر فرصاً لنمو بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

وهو ما يحذر منه الطبيب محمود الشيخ علي، رئيس قسم الباطنة في مستشفى غزة الأوروبي، قائلاً: "لم تعد هناك أنواع جديدة من المضادات الحيوية تتوفر في سوق الأدوية بغزة، والطبيب محصور بعدد محدود منها".

الصحة العالمية: حالات مقاومة للمضادات الحيوية

بينما كان الأطباء في غزة مشغولين بعلاج الجرحى، ومحاولة معرفة سبب ظهور البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، أعلنت منظمة الصحة العالمية، على لسان المسؤولة عن التمريض في مستشفى أوغوستا فيكتوريا في القدس، دينا ناصر، في شهر يناير/كانون الثاني 2019 عن اكتشاف حالات إصابة بجراثيم مقاومة للمضادات الحيوية في قطاع غزة، وعزت المنظمة ذلك الى الوضع السيئ للبنى التحتية في القطاع وافتقار النظام الصحي إلى معدات طبية وأنواع مختلفة من الأدوية بخاصة على مستوى نوع الجراثيم المكتشفة، وحذرت من احتمال حدوث كارثة صحية في حالة استمرار الوضع الحالي.

اضطر الأطباء لاستخدام نوع من الكلور الطبي لتطهير الجروح

وسبق التحذير السابق، تقرير أصدرته منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 حول الوضع الصحي لجرحى مسيرات العودة، مؤكدة أنّ معظمهم يعانون من التهابات تحول دون التئام الجروح، وأنّ غزة تفتقر لإمكانية تشخيص التهابات العظام، كما يضيف التقرير أن هذه الجروح ستؤدي، إذا لم تعالَج، إلى إعاقة مدى الحياة لدى الكثيرين، وإذا لم تعالَج الالتهابات فقد تكون النتيجة البتر أو حتى الموت.

ووفق المنظمة فإن 50% من بين 6 آلاف مصاب عالجتهم عانوا جروحاً معقدة، بينما يعاني 30% من صعوبات شديدة في التئام الجروح، والتهابات متكررة، تتطلب جراحات ومتابعات طبية مكثفة، بينما يؤكد المنسق الطبي في المنظمة محمد أبو مغيصب، أن 90% من إجمالي الإصابات كانت في الأطراف السفلية، مع تمزّق في العضلات والأوعية الدموية واختفاء أجزاء كبيرة من العظام، ما يجعل المصاب يحتاج إلى بضع عمليات جراحية ترميمية.

الصورة
غزة3
ينجم عن انفجار الذخائر الإسرائيلية الكربون الذي ينشر التلوث في الجروح (العربي الجديد)

ويرجح الأطباء نعيم وأبو هلال وشقفة وجود علاقة بين ظهور هذه البكتيريا وأسلحة الاحتلال المحرمة التي استخدمت ضد قطاع غزة، وهو ما دفع وزارة الصحة في غزة للإعلان عن تدشين برنامج لرصد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في شهر فبراير/شباط 2019 داخل مختبراتها، ويهدف البرنامج إلى إجراء دراسات حول الأنواع المختلفة للبكتيريا واستجابتها للمضادات الحيوية، ورفع النتائج للأطباء في التخصصات المتنوعة، لصرف المضادات الحيوية المناسبة، بحسب مدير دائرة المختبرات عميد مشتهى.

الصورة
إبراهيم
الجريح إبراهيم عبد الله سافر طلبا للعلاج بينما ظل جرحه مفتوحا لا يلتئم (العربي الجديد)

ويأمل الأربعيني إبراهيم عبد الله في أن يكتشف الأطباء حلاً لمعاناته المستمرة منذ تسعة أعوام، جراء عدم التئام جرح في أسفل قدمه، نجم عن شظية لا يزيد طولها على 2 سنتمتر أصابته في قدمه خلال عدوان صيف عام 2014 إذ خضع لسبع عمليات جراحية في مستشفيات مصر والقدس، وأخد جميع أنواع المضادات الحيوية، وأجرى أكثر من 15 زرعاً من دون نتيجة، ليبقى جرحه مفتوحاً لا يلتئم.

ذات صلة

الصورة
الصحافي بيتر ماس (Getty)

منوعات

كتب الصحافي المخضرم بيتر ماس، في "واشنطن بوست"، عن "شعوره كمراسل جرائم حرب وابن عائلة مولت دولة ترتكب جرائم حرب"، في إشارة إلى الإبادة الجماعية في غزة.
الصورة

منوعات

تظهر آثار مقاطعة "ماكدونالدز" بأكثر من شكل، بينها انهيار تقييم تطبيقها الرسمي في متجر تطبيقات الهواتف العاملة بنظام "أندرويد".
الصورة
من إحياء يوم الأرض في سخنين، العام الماضي (أحمد غرابلي/فرانس برس)

سياسة

تحلّ ذكرى يوم الأرض هذا العام، على وقع حرب غزة، وتشكّل مناسبة لفلسطينيي الداخل الذين يتحضرون لإحيائها، عودةً إلى المربع الأول: وحدة الأرض ووحدة القضية.
الصورة

منوعات

أعلنت قناة "غزة الآن"، اليوم الخميس، اعتقال مديرها، مصطفى عياش، من قبل السلطات النمساوية، وذلك بعد ساعات من إعلان عقوبات على القناة.