كأنّكَ لم تكن

كأنّكَ لم تكن

21 سبتمبر 2015
لن ينتبهوا إليكَ وقد لبستَ ألوان الرصيف (العربي الجديد)
+ الخط -

يقولون إنهم لا يعرفون لك اسماً أو أرضاً أتيتَ منها. فأنتَ لا تهمّهم. أنتَ هنا الغريب النائم على الرصيف. أنتَ الهامشيّ، وما أكثر الهامشيين في هذه البلاد.

سيمرّون من دون أن يلحظوا جسمك الممدّد باستحياء. لن ينتبهوا إليك وقد لبستَ ألوان الرصيف الرمادية. الرصيف الذي تدوسه أقدامهم العابرة كل يوم. لن ينتبه أحد إلى لون جلدك الذي فقدته أو إلى شعرك الطويل ولحيتك الطليقة. لن يتمكنوا من رؤية الحزن الفادح ولا الفراغ المهول الذي حلّ في قلبك، وجعلك تدور هائماً على وجهك بين شوارع المدينة من دون أن تدرك الخلاص. قد ينظرون إلى ثيابك الرثة والمتّسخة، فتثير التقزّز في نفوسهم. ولعلّهم لن يلحظوا أنك تنام حافي القدمين، وقد جعلت هاتين القدمين نعلاً تمشي به فوق الزفت الصلب فيشققهما ويدميهما.

باب المحلّ الذي اخترت التمدّد بالقرب منه يوحي بأنه مغلق منذ زمن طويل. ربما لو رآك صاحبه لغضب منك وآذاك، فمن مثلك يتسببون في هرب الزبائن، ومن مثلك أذيّتهم سهلة. لن يحبّ صورتك أمام محلّه. سوف يطردك بقسوة، مثله كمثل النظام الذي غضب منك من دون سبب ولفظك، فانتهيت مثل كثر، من دون قوة أو قدرة، في الشارع.

كيف تتحمّل كل هذا الحرّ والرطوبة والقسوة يا رجل؟ كيف يكون هواؤك عوادم السيارات ووسادتك الحجر المكسور؟ بماذا تحلم وأنت نائم؟ هل بالفراش الوثير؟ أم بالطعام الذي نسيت لذته؟ تراها الطبابة التي تحتاجها؟ أم الطمأنينة التي فقدتها؟

لم يتبقّ لك من حظ الدنيا إلا قنينة المياه البلاستيكية الصغيرة، وبضعة سجائر قدّمها لك أحد المحسنين. تشعلها عندما تفيق وتنفث دخانها في وجه الحياة وترهاتها من دون أن تقول شيئاً.
صدّقني أن وزارة الشؤون الاجتماعية لم تسمع بك يوماً. ولعلّها لا تريد أن تفعل. لو كنتَ مثار اهتمامها لسخّرت أجهزتها للبحث عنك، ولم تكن لتنتظرك أن تأتي إليها. لكنها ستقول إن ميزانيتها لا تسمح. وربما تقول أيضاً إن جنسيتك غير معروفة، فلا تستحق بالتالي رعايتها.

نم قدر ما تستطيع، واحلم بعالم أكثر حنواً وعدالة. فهذا عالمٌ لن تجده إلاّ في أحلامك. وغداً أو بعد غدٍ عندما تموت من الجوع أو المرض أو القهر، أو عندما تنهي بيدك حياتك البائسة، مثلما يحدث كل يوم في هذه البلاد، لن يهتموا. قد يقلبون شفاههم أسفاً ويهزّون رؤوسهم الفارغة، مدّعين بعض الأسى. ثم سيقنعون أنفسهم بأنك هامشيّ آخر في الحياة، وأن هذا قدرك. وسيمرّون.

سيمرّون على الرصيف كأنك لم تكن أبداً.

اقرأ أيضاً: توفيق الذي أحرق نفسه

دلالات

المساهمون