توفيق الذي أحرق نفسه

توفيق الذي أحرق نفسه

14 سبتمبر 2015
ومثلك يا توفيق كثر (العربي الجديد)
+ الخط -

قالوا إنكَ شربتَ من قنينة الوقود قبل أن تدلقها على نفسك وتشعل النار. فعلتَ هذا لكي تتأكد أن موتكَ حتميّ. أردتَ لرئتيكَ أن تحترقا، فينقطع النفس بسرعة. أردتَ لموتكَ أن يكون خاطفاً.

قال المسعف الذي رفعك عن الرصيف، الذي ما وجدت غيره مأوى، إنك بصقت كثيراً من الدم. الدم الأسود السميك.

لا نعرف من ذا الذي وجد جثتك المحترقة واتصل بفرق الإسعاف. حدث هذا في ليلةٍ انقطعت فيها الكهرباء. وعندما تنقطع الكهرباء يغيبُ الناس عن الوعي.

عرف أهل المنطقة هويّتكَ من الكرسيّ المتحرّك الذي وجدوك بالقرب منه. لولاه ما عرفوكَ. قالوا إنكَ كنتَ تنام تحت جسر البسطة الحديدي وتخرج بين الحين والآخر من أجل.. بعض الحسنات من البشر.

لم يرأف بكَ الشيب الأبيض. كيف يرأف بكَ وقد صرنا قساة مثل الحجارة. ننظر ولا نرى. نسمع ولا نركّز. نفكّر ولا نشعر. لقد صرنا آلات متحرّكة. لذلك اعذرنا ولا توجّه العتب إلينا. كمّ الصدمات التي نعيشها عطّل مشاعرنا. وكمّ المشاكل التي تعبث بنا ألهتنا عن كل شيء آخر. صرنا نخرج من المنزل كالذاهب إلى سباق. نركض ونركض، وينتهي النهار من دون أن نبلغ خط النهاية.

قالوا إن أحداً لم يهتم بكَ في حياتكَ. لا قريب ولا بعيد. حسناً. سأتفهّم قراركَ. في بلادنا، الشيخوخة مهانة، من دون ضمانات ولا احترام. يحدث هذا لأن النظام لا يتوقّع منّا أن نشيخ. يفضّل لو متنا باكراً، لذلك تراه لا يفكّر في مصيرنا على المدى الطويل. وربما صرنا، نحن أيضاً، نفضّل الحياة قصيرة ولا نفكّر في مصيرنا على المدى الطويل.

الكرسيّ المتحرّك، رفيقكَ الوحيد في الحياة، احترق معكَ أيضاً. لعلّه فعل ذلك من باب الوفاء. الأشياء أكثر رقة على البشر من البشر أنفسهم في أحيانٍ كثيرة. الجماد لا يتخلّى عنكَ. لا يترككَ. لا يتنكّر لكَ. لا يمرّ على التقاطع ويدّعي أنه لم يركَ. الجماد لا يفعل كلّ هذا. البشر وحدهم يفعلون ذلك.

المسعف نفسه قال إن جسمكَ احترق من الداخل إلى الخارج. المسعف لا يعرف أنكَ احترقتَ مراراً وانطفأتَ من الداخل قبل وقتٍ طويل. احترقتَ يوم تجرّعتَ طعم التخلّي والوحدة والحاجة. يومها فقط انطفأ قلبكَ ورئتاكَ. ما حدث بعد ذلك لم يكن إلا نهايةً مؤثرة لهذا الألم المتمادي الذي نخرك إلى أن وصلتَ إلى ما وصلتَ إليه. ومثلكَ يا توفيق كثر. هكذا قالوا اسمكَ، توفيق. ليته أصابكَ منه شيء.

وحده الكرسيّ المتحرّك، رفيق حياتكَ الوحيد، سيبقى شاهداً عليك وعلينا، حتى لو كان نصيبه القمامة. فالقمامة، في هذه الأيام، هي أهم ما في يومياتنا.

اقرأ أيضاً:جورج المقتول في الشارع

المساهمون