مصورون من فلسطين... حكايات من تحت الأنقاض

مصورون من فلسطين... حكايات من تحت الأنقاض

01 فبراير 2024
في خانيونس (أحمد زقوت/ الأناضول)
+ الخط -

وسط قصف متواصل لا يهدأ، وحصار كامل على قطاع غزة، يلعب مصورون فوتوغرافيون فلسطينيون دوراً حاسماً في عدوان الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تقارير يتحايلون بشتى السبل لتمريرها إلى العالم، بينما يواصل الاحتلال منع المراسلين والصحافيين الدوليين الرافضين للالتحاق بجيش الاحتلال من دخول القطاع.

مصورون بلا حدود: محمد الزعنون مثالاً

في شهر مايو/ أيار الماضي، تواصلت مجلة The New Humanity مع محمد الزعنون للعمل على مشروع خاص من أجل استكشاف الحياة اليومية في غزة. تغير كل شيء بين عشية وضحاها إثر 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ تحول اهتمام الزعنون إلى رصد آثار العدوان.
غادر المصور الفلسطيني منزله الواقع في شمال غربي مدينة غزة يوم 7 أكتوبر، ومنذ ذلك الحين وهو يتنقل من مكان لآخر نتيجة للغارات الجوية الإسرائيلية وأوامر الطرد، بينما أنقذ أطفاله مرتين بصعوبة من تحت الأنقاض.
كان الزعنون من بين الذين رصدوا بكاميراتهم آثار الانفجار الهائل الذي وقع في المستشفى الأهلي في مدينة غزة في 17 أكتوبر، ما أدى إلى مقتل ما يقرب من 500 شخص وإصابة 300 آخرين، وفقاً لوزارة الصحة في غزة.
بدءاً من 18 ديسمبر/ كانون الأول، اتجه الزعنون إلى الجنوب لرصد أحوال اللاجئين، وهناك رصدت كاميرته معاناة الأطفال بسبب غياب التدفئة، ناهيك عن نقص الغذاء والمياه وأنظمة الصرف الصحي والإمدادات الطبية. وسجل الزعنون في رسالته للمجلة البريطانية: "لسوء الحظ، لا توجد منظمات دولية كبيرة تقدم الدعم للأسر في هذه المناطق".
في تلك الفترة، أصيب المصور الفلسطيني بوعكة صحية، ومرض أيضاً أحد أبنائه الأربعة بسبب نقص الغذاء والتلوث، كما تعرض المنزل الذي احتموا به إلى القصف، ليُخرج أبناءه من تحت الأنقاض للمرة الثانية. كان ذلك قبل بدء وقف القتال لمدة أربعة أيام، ما أتاح له بعض الراحة التي منحته الفرصة حتى ينتقل إلى شرق خانيونس.
في رسالته المؤرخة بـ23 أكتوبر، يقول الزعنون إنه ذهب إلى مستشفى الأقصى لتقديم التعازي لزميله الصحافي وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة في غزة، الذي استشهدت عائلته في غارة جوية إسرائيلية.
ذكر الزعنون أنه طُلب من الناس الذهاب إلى جنوب قطاع غزة، لكن الصور التي أرسلها وقتها رصدت مدنيين ينقلون جرحاهم بعدما قصفت غارة منازلهم بالقرب من مستشفى ناصر في مدينة خانيونس، ليؤكد أنه "لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة، ولا يوجد طريق آمن".
في الفترة ما بين 27 و29 أكتوبر، توقفت جميع خدمات الهاتف المحمول والإنترنت في قطاع غزة، وسط قصف عنيف تزامن مع بداية الاجتياح البري. أشار الزعنون في تقاريره إلى منع إسرائيل ومصر الصحافيين الدوليين من دخول غزة، في حين قُتل ما لا يقل عن 26 صحافياً فلسطينياً إثر الغارات الجوية. وبعد عودة الاتصالات، تمكن الزعنون من استئناف إرسال الصور.
في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، أرسل المصور الفلسطيني تقريراً من مخيم الشاطئ للاجئين في شمال غزة، إذ حاول رجال الإنقاذ العثور على أحياء عقب غارة جوية إسرائيلية، بينما استشهد عشرات الأشخاص في انفجار وقع في مخيم المغازي المكتظ بالسكان، وسط قطاع غزة، بعدها بأيام استُشهدت عائلة صديقه وزميله المصور الصحافي محمد العالول.

بليستيا العقاد

اهتمت بليستيا العقاد قبل الحرب بتصوير الحياة اليومية في غزة وتعريف العالم إلى تفاصيلها. وعقب العدوان على القطاع، تحولت إلى مراسلة حربية، وسرعان ما امتلأت صفحتها على "إنستغرام" بصور الأحياء المدمرة والأهالي وهم يتقاسمون طعامهم مع الغرباء وسط الأنقاض والخيم الملأى بالجثامين.
حققت التغطيات المصورة التي قدمتها بليستيا على "إنستغرام" انتشاراً كبيراً، وارتفع عدد متابعي الحساب من أربعة آلاف قبل العدوان إلى ما يزيد عن 4.8 ملايين.
تصف المصورة الفلسطينية "إنستغرام" بأنه أشبه بمذكرات شخصية، ووسيلة للتواصل مع الناس، حتى يطلعوا على ما يحدث من خلال صورة لا تفتقد إلى الحميمية، وتضيف: "لا أريد أن ينظر إلينا الناس كمادة إخبارية فقط، لهذا السبب فإن (إنستغرام) مهم بالنسبة لي، فهو يحقق التواصل المطلوب. نحن لسنا مجرد خبر يمكنك إيقاف تشغيله مع التلفزيون عند انقضاء اليوم".
وفي ما يخص رؤيتها في نقل الأحداث، تقول العقاد: "من المهم بناء علاقة مع الناس حتى يكونوا مهتمين ويحدثونا عما يحدث. أرى أنني لست مجرد صحافية، ولست مجرد شخص يغطي الأخبار، أنا أيضاً أعيشها".
غالباً ما كانت تقضي المصورة الفلسطينية، مثل زملائها، ساعات في البحث عن مكان لشحن هاتفها أو العثور على تغطية إنترنت كافية بغرض تحميل المواد الخاصة بها. تفاقمت هذه التحديات بطبيعة الحال بعد انقطاع الكهرباء وانقطاع الاتصالات بصورة متكررة.
بعد العمل، كانت العقاد، كما ذهبت في تصريح لصحيفة ذا غارديان، تناقش ما إذا كانت ستنام في السيارة أو في المكان الذي تواصل عملها فيه، أو تعود إلى عائلتها، التي نزحت أيضاً بشكل متكرر. تقول: "كنت أفكر دائما: ماذا لو عدت إلى عائلتي، واستُهدفوا أو قُتلوا لأنني اخترت أن أكون صحافية؟". لكنها تعود فتفكر: "ماذا لو لم أعد إليهم واستُهدفوا؟".
ذكرت العقاد أيضاً أنها كثيراً ما فكرت في ما إذا كان من الأفضل لهم أن يموتوا جميعاً معاً. وتابعت: "الآن وأنا أقول ما كنت أفكر فيه بصوت عالٍ، يبدو الأمر جنونياً. كيف فكرت بهذه الطريقة؟".
غادرت العقاد غزة إلى ملبورن في أستراليا. وبعد أن كانت تغطي الأحداث وتبثها للعالم، أمست تتابعها مثل غيرها، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية شاعرة بالقلق على زملائها وأصدقائها الذين ما زالوا هناك.

معين حماد

مصورون آخرون نشطوا في الضفة الغربية، بينهم معين حماد، الذي روى لإحدى الصحف الأميركية قصة انتقاله إلى فلسطين بغرض زيارة جدته في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وكان من المفترض أن تستمر زيارته أسبوعاً. وبدلاً من ذلك، مكث شهراً بغرض توثيق جرائم المحتل ضد شعبه. قضى الصحافي الفلسطيني المقيم في بوسطن بالولايات المتحدة هذه الفترة في الجزء "الأكثر أماناً"، أي الضفة الغربية، على بعد 50 ميلاً من قطاع غزة.
وثق معين، في 28 أكتوبر/ تشرين الأول، أنقاض منزل عائلة نخلة في مخيم الجلزون بالقرب من مدينة رام الله، حيث عاش ثلاثة أجيال من اللاجئين في المنزل المهدم، والذين أصبحوا اليوم نازحين مجدداً.
في 8 أكتوبر، دخل معين مخيم قلنديا لتناول العشاء مع عائلته، حينها وردت أنباء عن مقتل ياسر القصبة (17 عاماً)، بالقرب من حاجز قلنديا برصاص قناص إسرائيلي.
وبعد أيام، زار حماد نادي السرية الرياضي، إذ لجأ إليه ما يزيد عن 400 عامل فلسطيني من غزة تقطعت بهم السبل. ومن خلال كاميرته، يسجل حماد تلقي أحدهم أنباء عن مقتل ثلاثة من أفراد عائلته في غارة جوية. "ماذا عن الآخرين؟"، صرخ الرجل على قريبه الذي يهاتفه من غزة، فأجاب: "ما زلنا نجمع الأنقاض". بعد أيام، ذهب حماد إلى نادٍ رياضي، حيث دوت هتافات عشرات العمال الفلسطينيين من غزة خلال وقفة احتجاجية داخل أحد ملاجئ الأراضي المحتلة.
سجل المصور الفلسطيني في هذا اليوم أن عاملا يبلغ من العمر 60 عاماً قال له: "أريد فقط أن أسمع صوت أحفادي. هل تعتقد أننا سعداء هنا؟ لا نريد طعاماً أو ماءً، بل نريد العودة إلى غزة، سنموت من أجل أرضنا".
في 25 أكتوبر، أيقظت قنابل الغاز المسيل للدموع ونيران البنادق حماد أثناء وجوده في مخيم قلنديا. وبعد ساعة، أعلنت مكبرات الصوت بالمسجد القريب عن مقتل أحمد مطير، وهو طالب في المدرسة الثانوية ولاجئ من الجيل الرابع، قُتل بالرصاص على يد جيش الاحتلال.
وثقت كاميرا حماد أيضاً أنقاض أحد المنازل في مخيم الجلزون للاجئين، بعد ساعات من مداهمة عشرات الجنود الإسرائيليين المخيم برفقة جرافة، وكان ذلك في 28 أكتوبر. فقدت ست عائلات فلسطينية وثلاثة أجيال من اللاجئين منازلهم عند شروق الشمس، وكان خبزهم الصباحي لا يزال موضوعاً على طاولة غرفة الطعام.
في الأول من نوفمبر، عاد معين إلى الولايات المتحدة لبضعة أسابيع. وعندما كان على متن الطائرة، يذكر أنه لم يستطع تحمل النظر من النافذة. شعر بالغثيان وهو يتشارك المنظر نفسه مع الطائرات من دون طيار ومروحيات الأباتشي وطائرات إف 16 التي تتناوب على القصف على غزة.
تلقى معين وقتها من خلال الواي فاي الموجود في الطائرة خبر مقتل صديق له هو مصور فوتوغرافي، بعدما تعرض الحي الذي يسكن فيه لغارة جوية إسرائيلية.

اضطلع مصورون كثر بينهم حماد والزعنون والعقاد، عبر توثيقهم الأحداث، بدور جوهري في نقل مشاهد حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال إسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. مساهمة المصورين في نقل الحدث لم تترك مجالا لأكاذيب وتزييف مدعوم بآلة إعلامية جبارة تنتشر حول العالم، متمثلة في كبرى المؤسسات الإعلامية التي تساند دولة الاحتلال.

المساهمون