عن "خطّ أحمر" في سيرة: حكايات مُلطّفة أم حقيقية؟

عن "خطّ أحمر" في سيرة: حكايات مُلطّفة أم حقيقية؟

12 فبراير 2024
سيلفستر ستالون في "سلاي": نطرة إلى ماضٍ تسرد تاريخاً (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أنْ يُشارك نجمٌ في إنتاج فيلمٍ، وثائقيّ تحديداً، عن سيرتيه الحياتية والمهنية، يعني أنّ هناك "خطّاً أحمر" (أو ربما أكثر من خطٍّ واحد) يُفترض بصنّاعه عدم تجاوزه. والـ"خطّ" هذا، إنْ يحضر في أصل المشروع، يعني أنّ أموراً يجب ألا تظهر، وأخرى يجب أنْ تكون "مُلطَّفة" أو "مُخفّفة"، أي مرويّة بحسب ما يبغيه النجم، كشخصية وحيدة في الفيلم، وكمنتج له، أو مُشارك في إنتاجه، في آنٍ واحد. أساساً، إنْ يكن النجم مُنتجاً ـ مُشاركاً في الإنتاج أمْ لا، ويكون شخصية وحيدة في الفيلم، سيقول ما يريد قوله، مُلطّفاً أو مُخفّفاً، وسيُخفي ما يرى أنّ إخفاءه ضروريّ.

هذا غير مُعمَّم، لكنّه ماثلٌ في أفلامٍ وثائقية، تروي حكايات أناسٍ فاعلين وفاعلات في المشهد العام، والسينما وصناعة الترفيه والاستعراض جزءٌ أساسيّ من المشهد هذا، وهؤلاء أساسيون في صنع أفلامٍ كهذه. كشفُ المخفيّ أو بعضه، أو المُلطّف والمُخفّف أو بعضهما، غير سهلٍ على مُشاهدي فيلمٍ كهذا، وعلى مُشاهداته. فالكشف يحتاج إلى تنقيبٍ واستقصاء وتحرّ، أي بحثٍ دقيق في تاريخ وأحوالٍ وحكاياتٍ، ومشاهدو ـ مشاهدات فيلمٍ كهذا غير توّاقين، ربما، للبحث، أو غير قادرين عليه، بكلّ بساطة. عامل ـ عاملة في النقد والصحافة السينمائيين غير قادرَين على هذا أيضاً، خاصة إنْ يكن أحدهما عربياً ومُقيماً في بلده، والنجم، الشخصية الأساسية (مع صفة منتج ـ مشارك في الإنتاج، أو من دونها) أجنبيّ مُقيم في بلده، أو عاملٌ ـ عاملة في بلدٍ آخر، ذي صناعة سينمائية ضخمة.

يُمكن طرح المسألة نفسها على كُتُب سِيَر ذاتية ومذكّرات أيضاً. فالشخصية الأساسية فيها حاضرةٌ بقوّة، وما تريده أو تطلبه يُنفَّذ، وإلا فمشروع الكتاب مُلغى. نجومٌ يستعينون بصحافيين وصحافيات، غالباً، لنقل المرويّ على ألسنتهم إلى نصٍّ، يمزج مفردات الأدب بمتطلّبات كتابةٍ، يُستحسَن أنْ تكون سلسةً من دون تسطيح، وعميقة من دون تنظير، وبسيطة من دون تصنّع، ومليئة بحقائق ووقائع من دون تنصّل أو تجميل.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مثلٌ أوّل: "الأغاني التي علّمتني إياها والدتي" لمارلون براندو (مع روبرت ليندزي، صحافي وكاتب أميركي، الطبعة الأميركية الأولى، "راندوم هاوس"، 1994؛ الترجمة الفرنسية لهيو لوروا، "بلفون"، 2004). تفاصيل عدّة، بعضها حميميّ، مروية بأسلوبٍ قابل لتصديقها. التوغّل في الذات، أفعالاً وسلوكاً وعلاقاتٍ ومواقف، يشي بأنّ في النصّ "حقائق"، ربما تُخفي أخرى، وربما لا. مثلٌ ثانٍ: "أسرار دولون" لبرنار فيولي (صحافي وكاتب فرنسي، الطبعة الفرنسية الأولى، "فلاماريون"، 2000). معروفٌ الوصف المتداول عنه: "الكتاب الممنوع"، أي ذاك الذي يسعى ألان دولون نفسه إلى منع صدوره، عبر القضاء الفرنسي، من دون جدوى. دولون رافضٌ، لأنّ فيولي يريد مساحة كبيرة من حرية الكتابة، وحُكم المحكمة الذي لمصلحته تأكيدٌ لحقّه في امتلاك حرية كبيرة في سرد وقائع وحقائق، تستند إلى وثائق وإثباتات. تفاصيل تقول إنّ لدولون علاقات صداقة مع المافيا، وإنّ حارساً شخصياً له متّهم بجريمة قتل، وأشياء أخرى خارج السينما أيضاً.

مشاهدة الوثائقي الجديد "سلاي" (2023، نتفليكس)، للأميركي توم زيمْني، يستدعي تساؤلات كهذه، فالشخصية المحورية فيه، أي سيلفستر ستالون (الممثل والمخرج والسيناريست)، أحد أبرز منتجيه، بل المنتج التنفيذي، والنصّ المُصوَّر (في منزلٍ فخم له، أساساً، كما في منطقته المولود فيها، والمُقيم فيها زمناً) يروي فصولاً من سيرتيه الحياتية والمهنية، وأناسٌ عديدون يظهرون، بعضهم أفرادٌ من عائلته (أخ، أب وإنْ في أشرطة فيديو قديمة، تحديداً)، وآخرون ـ أخريات لهم في صناعة السينما مهنٌ، أبرزها الإخراج.

النصّ المُصوّر عنه، وهو أحد أبرز منتجيه، يُحرِّض على طرح تساؤلات عن المحجوب ـ المغيّب ـ المخفيّ، والمُلطّف ـ المخفّف، علماً أنّ لحظاتٍ عدة فيه تكشف شيئاً من ألمٍ دفين، وحزن عميق، وقلق يسبق نوعاً من تصالحٍ ما مع الذات، إزاء مسائل مختلفة، كالفراغ المتفشّي في منزله الضخم، والعلاقة ببناته، وأصدقاء ومعارف، وماضٍ مليءٍ بأفعال (متناقضة طبعاً بين نجاح وفشل، وفرح وغمّ، وحياة وموت، إلخ).

بدءاً من اللقطة الأولى، يكشف "سلاي" مناخاً، إنسانياً وحياتياً ومهنياً، سيُظلِّل الحكاية برمّتها: زقزقة عصافير، خلفية سوداء، ثم ستالون أمام واجهة كبيرة من زجاج، والكاميرا خارج المنزل، وصوته المعروف بنبرته التي تمزج حزناً بمرارة وحدّة رغم لُطفها، مع بعض الواقعية: "أنادم أنا على أشياء فاعل إياها؟ بالتأكيد. لكنْ هذا أيضاً يُحفّزني للتغلّب على الندم، وإصلاحه". يُضيف: "أفعل هذا بالرسم أو الكتابة، فأنا غير قادر على إصلاح الندم عملياً، لأنّ الحدث حاصل".

هذا مدخلٌ إلى عالمه، والرحلة البصرية مفعمة بمشاعر مؤثّرة، غالباً، تُغذّيها نبرته المنبثقة من صوت فيه خلل، لكنّه سببٌ لشهرة وحضور. صوت يحمل حنيناً إلى زمنٍ منتهٍ، وإلى أناسٍ غائبين، وإلى اشتغالاتٍ، بعضها مُثير لقهر خفيّ، ووجع مستتر، فستالون متصالحٌ مع تاريخه، وعلاقته المضطربة بأبٍ، تخرج من رتابة الانقطاع إلى ما يُشبه الاستسلام إلى مسار الزمن، كأنْ يقبل بالحاصل ويتجاوزه، وإنْ من دون مصالحة عميقة وثابتة.

لكنّ سؤال المصداقية، في سِيَر ومذكّرات، يبقى غير محسومٍ، رغم أنّ أعمالاً عدّة مُثيرة لمتعة المُشاهدة، وربما لتقصٍّ عن حقائق ووقائع.

المساهمون