عن تعليق "زنقة كونتاكت": رقابة تتشدّد فتُناقِض معنى السينما

عن تعليق "زنقة كونتاكت": رقابة تتشدّد فتُناقِض معنى السينما

26 أكتوبر 2022
إسماعيل العراقي: "اختيار موسيقيّ محض، لا بعد سياسياً له" (جان ـ لوك مارج/معهد لوميير)
+ الخط -

 

تجدّد نقاش حرية الإبداع في المغرب بمناسبة قرار "المركز السينمائي المغربي"، القاضي بـ"تعليق تأشيرة الاستغلال التجاري والثقافي" لـ"زنقة كونتاكت"، و"توجيه إنذار لشركة إنتاجه"، مع منحها "48 ساعة قَصْد تعديل نسخة الفيلم، ومطابقتها مع السيناريو الأصلي للعمل، الذي نال به الفيلم الدعم، تحت طائلة سحب رخصة مزاولة المهنة" و"تعليق البطاقة المهنية للمخرج إسماعيل العراقي".

حدثٌ أسال مداداً كثيراً، وأعاد إلى الأذهان جدل منع "الزين لي فيك" لنبيل عيوش، عام 2015، مع اختلاف جوهري، كون الأخير مُنع قبل عرضه في المغرب، بعد تسرّب مقاطع منه، بالموازاة مع عرضه في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائي، بينما يأتي تعليق استغلال "زنقة كونتاكت" بعد 11 شهراً من عرضه في القاعات المغربية، ونيله الجائزة الكبرى للدورة الـ22 (16 ـ 26 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة".

بُرّر القرار بتضمّن "زنقة كونتاكت" أغنية لمريم منت الحسين (1958 ـ 2015) بدل أغنية لفاضول، الواردة في السيناريو المُقدّم لنيل الدعم. لكنّ باطنه انصياعٌ لضغط مواقع إلكترونية (كما تعترف بذلك مُقدّمة البلاغ، المُذهلة باستسهالها) وجهات أخرى (يُحرّكها الحقدُ على فوز الفيلم في طنجة، أو الانزعاج من نَفَس الحرية والجرأة المنبعث من كلّ فوتوغرام فيه)، ربطت بين اختيار فنّي صرف وآراء المُغنّية المتعاطفة مع طرح جبهة البوليساريو في قضية الصحراء. اختيارٌ دافع عنه المخرج وشركة الإنتاج في بلاغ مشترك، مُركّزين على الطابع التوضيحي للموسيقى: "صوتُ مغنّية، وليس ما تمثّله سياسياً بأيّ حال من الأحوال". قالا إنّ هذا "يحصل عادة في السينما، في مرحلة المونتاج وصوغ الشريط الصوتي" وأكّدا أنّ "الفيلم يهدف إلى التوحيد ومداواة الجروح، وليس فتح أخرى جديدة"، واعتذرا "عن الإساءة التي يمكن أنْ يشعر بها البعض إزاء اختيار موسيقي محض، تمّ اعتبار أنّ له بعداً سياسياً".

تناقضاتٌ شكلية وموضوعية عدّة يطرحها بلاغ المركز السينمائي، أوّلها، أنّه يفترض مطابقة كلّ الأفلام ـ التي تؤشّر بخروجها واستغلالها "لجنة النظر في صلاحية الأشرطة السينمائية" للسيناريوهات الأصلية ـ بحذافيرها وتفاصيلها الدقيقة، وهذا لا يحدث في الواقع، ولا يُمكن أنْ يتحقّق لأنّه يعني بكلّ بساطة تجريد الممارسة السينمائية من فكرة مترسّخة في جيناتها، تقضي أنّ الأفلام نتيجة تفاعل 3 لحظات فارقة في إنجازها: وحي النص المكتوب، وحقيقة لحظة التصوير، ثمّ إعادة الكتابة على طاولة المونتاج؛ مع استحضار ما تفترضه المرحلتان الأخيرتان من تغييرات تنتج من تطوّر رؤية المخرج بالتفاعل مع معطيات الواقع، وانفتاحه على النقاش مع فريقه التقني والفني.

أشياء تبدو بديهية، لكنّ بلاغ المركز يضربها بعرض الحائط، مستعيناً بقاموس بيروقراطي صرف، يعتريه الكثير من التشنّج ونبرة التهديد، ويتعارض أسلوبه القطعي مع النسبية والرهافة المتأصّلتين في السينما، والفنون عامة.

بلاغٌ يعطي الانطباع بانتمائه إلى زمن غابرٍ، كانت السينما تُعتَبر فيه وسيلة بروباغندا سياسية، فيما أضحت اليوم تُقارب كمفتاح قوّة ناعمة، تستوعب أكثر ممّا تقصي، وتجمع أكثر ممّا تفرّق. بعبارة أخرى، مرّ من دبَّج البلاغ أمام فرصةٍ رائعةٍ للبرهنة على أنّ الأطروحة المغربية قوية، إلى درجة أنّها تستوعب حتى من لا يتبنّونها.

 

 

رافقت أغنية مريم منت الحسين ("إيد شاب"، من ألبوم "مريم منت الحسين مع الأجواد") مشهداً طويلاً ومُهمّاً من الفيلم، يمثّل أوج مسار مصارحة البطلين، رجاء ولارسن، أحدهما للآخر، بمكنون روحيهما، قبل أن ينطلقا، مُتسلّحين بقوة حبّهما، في مداواة الجراح، ودحر الإدمان، والفرار من محيط مُستعبد وحاطّ من الكرامة. تصدح نغمات الإيقاع الصحراوي، المحيلة إلى الـ"بلوز" ـ ما يعكس هشاشة رجاء وسقوط قناع (شعرها المستعار) الفظاظة الذي كانت ترتديه، ثمّ تتصاعد حدّة صوت المغنّية، المبحوح والمتّقد، في خلفية إقدام لارسن على النظر في عينَي محبوبته، مُتغلّباً على انزوائه المرضي. تقول رجاء عن صوت منت الحسين: "صوتها صاروخ مُغمّس بالعسل". جملةٌ دالّة وناجعة لفهم أحد أهم نوازع الفيلم، الممثّلة في نجاة المخرج نفسه من تفجيرات "باتاكلان" الإرهابية في فرنسا (حوار "العربي الجديد" معه، 20 و22 ديسمبر/كانون الأول 2021).

يلتقي البطلان في قبلةٍ حارّة، في مشهد حبٍّ من أجمل ما صوّرت السينما المغربية، يَحزّ في القلب أنْ تتحرّك حوله كلّ هذه الموجات السلبية من الحقد والضغينة والبيروقراطية الوصولية. صحيحٌ أنّ بلاغ المخرج والجهة المنتجة مُخيّبٌ، باستعداده لإعادة مونتاج الفيلم، رغبةً في تبديد "سوء الفهم". لكنْ، يتّضح بعد التفكير أنّ من المجحف إلقاء ثقل موضوع شائك ومعقّد، كحرية الإبداع في المغرب، على كتفي مخرج شاب، أفصح عن موهبة لا تخطئها العين، وشركة "مون فلوري"، لصاحبها سعيد حميش، الذي أنتج لأسماء مهمّة في السينما المغربية، كفوزي بن السعيدي ونبيل عيوش، وأبان بدوره كمخرج عن رؤية مدهشة بكثافتها ونضجها المبكّر ("عودة إلى بولين" عام 2017، و"الرحيل" عام 2021).

ينبغي اليوم فتح نقاش صريح وجدّي حول مستقبل السينما المغربية، في ظلّ الخلاصات المخيّبة للدورة الأخيرة لمهرجان طنجة ("العربي الجديد"، 30 سبتمبر/أيلول 2022)، ثمّ هذا التطوّر الذي يبدو كامتداد طبيعي لها، ما يطرح مجدّداً أسئلة حارقة حول استقلالية "المركز السينمائي المغربي"، في ظل التحكّم البادي لـ"وزارة الثقافة والاتصال" في سياسته وقراراته. أضحت الممارسة السينمائية المغربية بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى نشر الثقافة السينمائية عن طريق المدرسة والإعلام، في زمنٍ يُسقط فيه من يقرّرون أنفسَهم في حالات خلطٍ فادح، كنزعة مطابقة النسخة النهائية لفيلمٍ مع سيناريو مكتوب، وخلق اللّبس بين رؤية مخرج والآراء السياسية لمغنّيةٍ، يستعين بصوتها في مشهد.

ما الجدوى من إنتاج أفلامٍ جميلة وجريئة، تقوم بوظيفتها في خلخلة الدوغمائيات، وإلقاء حجر في بحيرة الجمود القاتل، إذا كانت المؤسّسات الوصية تنصاع، في نهاية المطاف، لأصوات الرقابة الشعبوية، وتحريض المواقع المشبوهة، التي تُحاكم الأفلام بناءً على ما تتمثله (الدعارة، تعاطي المخدّرات، إلخ.)، بدل أنْ تجتهد لتفكيك الوظيفة الجمالية الأساسية التي تقوم بها السينما، لأخذ مسافة من هذه الظواهر، والمساهمة بالتالي في رؤيتها بمنظور أغنى وأنجع.

ولأنّ الحقيقة تُستَشفّ غالباً من المقدّمات والخواتيم، فإنّ خاتمة البلاغ ـ التي تقول إنّ "المركز السينمائي يستغلّ هذه المناسبة من أجل دعوة المنظمات المهنية الجادة إلى تقديم تصوّر منطقي لإعادة النظر في منظومة الدعم العمومي للأعمال السينمائية، التي تمّ إرساؤها سنة 2013، وأصبحت متجاوزة فنّياً وتقنياً وإدارياً" ـ تُلقي، بسياق ذكرها هذا، مخاوف حقيقية في قلوب المهنيين والمراقبين، المجمعين على ضرورة إصلاح منظومة الدعم، من أنْ يتحوّل هذا الأخير إلى مطية للإجهاز على مكامن التفرّد القليلة، التي لا تزال تقاوم في أطراف المشهد السينمائي المغربي، وما تبقّى من فرص حرية الخلق في دواليبه المتصلّبة من فرط البيروقراطية.

المساهمون