عن الكآبة والغياب والعزلة

سينما (str/فرانس برس)
29 ديسمبر 2020
+ الخط -

لم أتصوّر أنْ يكون الأمر بتلك الخطورة. كنتُ أعتقد أنّ فيروس كورونا كغيره من الفيروسات، التي مرّت وفتكَتْ وتمّ القضاء عليها في نطاق محدود. بحسب ما خمّنتُ وقتها، من المُرجّح أنّ هذا ما سيحدث مع كورونا أيضاً. سيُحاصَر وُيقضَى عليه في أقرب فرصة. سينتهي وسيُنسى، وسنبدأ حياتنا بشكل عادي.

لكنْ، بعد أسابيع، انتشر بسرعة رهيبة وغير متوقّعة في العالم. لم أحسّ بخطورة الأمر، رغم التهويل الإعلامي والسياسي والاجتماعي، ورغم التحذيرات المستمرة. عندما تمّ إلغاء دورة مهرجان "كانّ" السينمائي، التي كان مقررا تنظيمها في مايو/ أيار 2020، أدركتُ بشكلٍ جازمٍ أنّ الأمر جدّيّ إلى درجة كبيرة، وأنّ الفيروس اللعين يهدّد البشر وثقافاتهم، وسيُصيب عصب الصناعة السينمائية، وسيخدش المرآة التي أرى عبرها، وأتنفّس وأعتاش منها. أصبحتُ مهدّداً في عملي.

بعدها، تتالت الأخبار المحزنة، التي باتت تأتي تباعاً ومن دون انقطاع. سيطرَتْ أعداد القتلى بسبب هذا الفيروس على نشرات الأخبار في كلّ مكان، وأيضاً أخبار إغلاق صالات السينما إلى أجل غير محدود، وتعطيل عجلة التوزيع، لأن لا أفلام ولا صناعة. إلغاء التظاهرات السينمائية، التي لم تعرف حالات مُشابهة منذ تأسيسها. ورغم أنّي لم أعتَد الذهاب إلى مهرجاناتٍ سينمائية كبرى تُقام في أوروبا، فإنّ توقّفها أوجع قلبي، لأنّي تيقّنتُ أنّ إفرازاتها ستصل إليّ ولو بعد حين. عقدْتُ الأمل مع مهرجانات سينمائية تُقام في العالم العربي، اعتدتُ الذهاب إليها، ولي مع بعضها التزامات مسبقة، كمُحاضرٍ أو عضوٍ في لجان تحكيم، في دول المغرب والخليج.

العالم الذي رسمته لنفسي، والآمال التي عقدتُها، والخطط التي وضعتُها مع بداية عام 2020، لم يتحقّق منها شيء

أملي الأكبر كان مُرتبطاً بـ"مهرجان الجونة السينمائي"، الذي أجد فيه أفلاماً مهمّة، تُعوِّض عليّ مُشاهدة ما فاتتني مشاهدته في مهرجانات أوروبية. لكنّ توقّف حركة النقل الجوي في الجزائر حال دون ذهابي إليه. لم يعد هناك سوى "مهرجان القاهرة السينمائي"، الذي يحتفل أيضاً بأفلامٍ جديدة ومهمّة، يمكن أن أختُمَ بها سنة الـ"كوفيد" بطريقة أكثر إشراقاً. هذا الأمل ذاب، مع استمرار توقّف النقل الجوي في الجزائر، الذي دام طويلاً، ولا يزال معلّقاً إلى اليوم.

خاب الرجاء وطال الانتظار، لأنّ العالم الذي رسمته لنفسي، والآمال التي عقدتُها، والخطط التي وضعتُها مع بداية عام 2020، لم يتحقّق منها شيء. لهذا، سلكْتُ طريقاً مغايرة ومختلفة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

ذهبتُ إلى المُشاهدة المنزلية. رغم أهميتها، لم توفّر لي فرجةً أنشدها في صالاتٍ ومهرجاناتٍ، لها نكهتها الخاصة. إذْ ليس هناك، في المُشاهدة المنزلية، من تتقاسم معه طقس التلقّي والمناقشة والتعبير عن اللذّة التي نحسّ بها مع انتهاء كلّ فيلمٍ جيّد. تشعرُ أنّ هناك طاقة تسكن جسدك، وتتملّكك رغبة كبيرة في التعبير عنها، وفي تفريغها من الداخل. لكنّ هذا لا تُحقّقه المنصّات والمواقع الإلكترونية، إذْ تجد نفسك معها وحيداً. أكثر من هذا، تحسّ باختناقٍ وضغطٍ من الفضاء الضيّق، ومن غياب جماليات مخبّأة.

كان عام الـ"كوفيد" هذا خليطاً من كآبةٍ وجدّ وهزلٍ وغيابٍ وحسرة. تداخلت المشاعر واختلطت، فلم أعد قادراً على فهم الواقع بطريقتي المعتادة. لكنْ، وسط هذا كلّه، قاومتُ ورفضتُ عروضاً ومشاركات في فعاليات سينمائية، نُظِّمَت إلكترونياً، رغم أنّ هذا يضمن لي مُشاهداتٍ ظرفية، ويوفّر لي أفلاماً لا أجدها في المواقع قريباً. موقفي هذا متأتٍ من منطلق حِسّ المُشاهدة، وحماستي الزائدة للحفاظ على فرجة حقيقية، وعلى هيبة صالات السينما، التي ستعود إلى طبيعتها مهما طال عمر هذا الفيروس أو قَصُر. ولأنّي كنتُ أعتقد أنّ 2020 سيكون عاماً أبيض نتذكّره دائماً بأنّه ألزمنا البيوت، وحرمنا طقوساً نحبّها، وجَبَ التصرّف سريعاً، والتأقّلم مع الوضع، بتنفيذ "الخطة ب"، التي تقضي بقراءة كتبٍ لم أقرأها، خاصة الروايات التي أرى أنّ عوالمها قريبة جداً من عوالم السينما، وأنّها تلتقي معها في نقاطٍ كثيرة. كما أنجزتُ دراساتٍ كانت مُعلّقة، واختبرتُ تجارب أدبية لم تكن لتكتمل لولا الإغلاق الشامل، الذي حاصرنا.

اختبرتُ تجارب أدبية لم تكن لتكتمل لولا الإغلاق الشامل

على الأقلّ، استطعتُ بهذا أن أتحايل على الواقع بخلق واقع مغاير، وتأثيث ذاكرةٍ وذكريات عن منجَزاتٍ ملموسة، بدل ربط عام الـ"كوفيد" بروتين البيت والكآبة والخوف منه، والترقّب وانتظار اللقاح والجلوس أمام شاشات التلفاز، التي تبثّ طاقاتٍ سلبية.

لذا، أرى أنّي خلقت نوعاً من توازنٍ، ولحقت بالعام قبل انقضائه، وانقضاء الخمول والذبول مع انقضائه. لا أستطيع أنْ أنكر أنّ فعاليات سينمائية، مُنظّمة إلكترونياً، وفّرت بعض فُرجةٍ، وإنْ ظرفياً، كفعالية "قافلة بين سينمائيات"، الممتدّ نشاطها بين 3 و13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020. بفضلها، شاهدتُ أفلاماً كثيرة مهمّة. وبفضل موقع "فَسْتيفال سكوب"، شاهدتُ أفلاماً أوروبية جديدة، بحكم عضويتي في "جوائز النقّاد العرب للأفلام الأوروبية". لكنّ هذا لم يضعني في الصورة الحقيقية لطقوس الأفلام والمهرجانات والفعاليات، المُنظّمة سابقاً هنا وهناك، بانتظار عامٍ جديد، أتمنّى أنْ يكون بلا "كوفيد".

المساهمون