دفاتر فارس يواكيم: إسماعيل فهد إسماعيل هل كان كويتياً أم عراقياً؟

24 ابريل 2023
إسماعيل فهد إسماعيل مع عبد الرحمن الأبنودي وخيري شلبي وطالب الرفاعي (من أرشيف محمد جواد)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم

حارَ المهتمّون بسِيَر الأدباء في تحديد أصول الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل وفي نسبته إلى أيٍّ من البلدين: الكويت أم العراق؟ هو قال لي ذات مرة إنه تعب من الردّ على السؤال المتكرر. وأضاف: "طبيعي أن أحب البلد الذي فيه ولدت ونشأت وهو موطن ذكريات الطفولة والشباب، ومن نافل القول إنني أحب الكويت بلد أهلي، موطن جذور عائلتي، وقد انتقلت إليه وها أنا أعيش فيه من سنين وسأبقى به إلى آخر عمري". وكنت أتفهّم هذا الحب المزدوج لأنني عشت حالة شبيهة. 
ولد إسماعيل في بلدة السبيليات جنوبيّ العراق سنة 1940، لأبٍ كويتي وأم عراقية. وهذه بداية الثنائية. تعلّم في المدرسة الابتدائية بالسبيليات وانتقل إلى البصرة فأكمل التعليم الثانوي، واكتمل فيها تكوينه الفكري والأدبي. أقام فيها سنوات ونشأت علاقة طيبة جمعته بمحبي الأدب. وكان القارئ النهم يحلم بأن يصير أديباً يشبه الذين يقرأ مؤلفاتهم. 
سنة 1966 انتقل نهائياً إلى الكويت، وظلّ مقيماً فيها إلى وفاته في 25 سبتمبر/ أيلول 2018. عاش 26 سنة في العراق و52 سنة في الكويت. الضِّعْف بالضبط. كأنها محسوبة سلفاً. لكن الحب لا يُقاس بعدد السنين. ولسوف يترجم انغماسه حدّ العشق في هذين المجتمعين في رواياته العديدة. 

إسماعيل فهد إسماعيل مع حنا مينة وليلى العثمان (من أرشيف محمد جواد)
مع حنا مينة وليلى العثمان (من أرشيف محمد جواد)

في بداية إقامته في الكويت عمل مدرّساً مسؤولاً عن التوجيه الفني. وتلقى منحة من منظمة يونسكو لدراسة الفنون في مصر. وفي القاهرة كانت لقاءات سرعان ما أصبحت صداقات مع عبد الرحمن الأبنودي وصلاح عبد الصبور ونور الشريف. وبعد عودته إلى الكويت التحق بمعهد الفنون المسرحية وتخرج منه سنة 1980 مجازاً في الأدب والنقد. وفي هذه السنة تعارفنا. ولم أره مرة في الكويت، أو خارجها، إلّا مرتدياً الزي المنتشر في عموم العالم العربي، أي القميص والبنطال، والسترة (الجاكيت) أيام الشتاء. ولم يكن ذلك ليرمز إلى شيء، سوى أنها عادة لازمته منذ سنوات الشباب.
كنت مكلَّفاً من "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" الإشراف على إنتاج مسلسل "قصص خليجية" التلفزيوني وكتابة السيناريو لبعض حلقاته. وكانت لجنة قراءة النصوص وإجازتها مشكّلة من إسماعيل فهد إسماعيل والمخرج المسرحي التونسي المنصف السويسي المقيم في الكويت أيّامذاك. وبحكم هذه المهمّة بدأت العلاقة بيننا، وبسرعة فائقة تحوّلت إلى صداقة. إذ عرف أنني لبناني، أهدى إليّ في اللقاء الثاني روايته "الشياح" التي تدور أحداثها في لبنان وقت الحرب التي كانت نيرانها ما زالت مشتعلة، وكتب إهداءً يقول فيه: "إلى رفيق الكلمة، الفنان الذي أعجبني منذ الثواني الأولى للقائي به". وبعد يومين أهدى إليّ "الأقفاص واللغة المشتركة" وكتب "نادراً أن تحبّ إنساناً منذ لقائك الثاني به. إلى الذي أنالني من محبته..". قلت له: "لم أطبع مؤلفاتي. فلا كتب عندي لأهديها"، وواصلت الاستيحاء من بيت المتنبي "ولا مال"، فأكمل الشطر الثاني "فليُسعد النطق إن لم تسعد الحال". ضحكنا، فنطقتُ: "لكن ثق بأن المحبة متبادلة والتقدير، خصوصاً وقد قرأت بإعجاب رواياتك (كانت السماء زرقاء)، و(المستنقعات الضوئية)، و(الحبل)، و(الضفاف الأخرى) واكتشفت أنك روائي مهمّ وصاحب أسلوب متميّز".

إسماعيل فهد اسماعيل مع نجيب محفوظ (من أرشيف محمد جواد)
مع نجيب محفوظ (من أرشيف محمد جواد)

روايته الأولى "كانت السماء زرقاء" كتبها سنة 1965، لكنها ظلّت مخطوطة. وانتهز فرصة زيارة الشاعر صلاح عبد الصبور للكويت سنة 1970، فسلّمه المخطوطة في مظروف مقفل ورجاه أن يقرأ. وكم كانت سعادته بالغة عندما أخبره رأيه الإيجابي، وأعلن استعداده لكتابة مقدمة لها لدى نشرها. وهكذا صدرت طبعتها الأولى عن "دار العودة" في بيروت بالمقدمة التي استهلها صلاح عبد الصبور بالحديث عن خصائص الرواية في القرن العشرين، وقال إنه يود أن يشير إلى ثلاث روايات أعجبته: "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، و"سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي، ثم رواية إسماعيل هذه. وعنها قال: "كانت مفاجأة كبيرة لي. رواية القرن العشرين، قادمة من أقصى المشرق العربي، حيث لا تقاليد لفنّ الرواية، وحيث ما زالت الحياة تحتفظ للشعر بأكبر مكان. (...) أدهشتني الرواية ببنائها الفني، المعاصر، المحكم، وبمقدار اللوعة والعنف والحب والقسوة والفكر المتغلغل كله في ثناياها". 
شهرة الروائي طغت على شخصية إسماعيل فهد إسماعيل. لكنه صاحب باع في مجالات أخرى. منها المسرح، ونشر دراستين "الفعل الدرامي ونقيضه" ثم "الكلمة – الفعل في مسرح سعد الله ونوس".  وكتب مسرحيات منها "النص" و"للحدث بقية". وفي محادثة لنا عن المسرح قلت له: "واضح في رواياتك أنك درست المسرح، فالحوار يلعب دوراً درامياً فيها. وعندك كتاب من تأليفك (ملف الحادثة 67) يمكن أن يكون مسرحية ويمكن أن يكون سيناريو لفيلم سينمائي، برغم أن الغلاف يشير إلى أنها رواية". قال: "المسرح هو مجال دراستي الأكاديمية، والسينما عشقي الكبير منذ الطفولة. طالما تمنّيت أن أغدو مخرجاً سينمائياً". عقّبتُ: "في رواياتك عموماً يتضح أيضاً حبك للسينما. البناء الروائي عندك يعتمد على أسلوب المونتاج والنقلة السينمائية من مشهد إلى آخر، والتداعيات إن هي إلا (فلاش باك) سينمائي".

إسماعيل فهد إسماعيل مع اقبال العثيمين (من أرشيف محمد جواد)
مع إقبال العثيمين (من أرشيف محمد جواد)

لم يصبح إسماعيل فهد مخرجاً، لكنه صار منتجاً. حقق جزءاً من أحلامه السينمائية. أسس شركة "ضفاف للإنتاج الفني" التي أنتجت عدداً من المسلسلات التلفزيونية الخليجية، لم يكن فيها إسماعيل كاتباً، لكنه اكتفى بدور الشريك في الإنتاج. في مطلع ثمانينيات القرن الماضي اشترى المخرج والمنتج التونسي حقوق تحويل رواية إسماعيل "المستنقعات الضوئية" إلى فيلم سينمائي. وكان من المفروض أن يتولى النجم المصري نور الشريف دور البطولة، وتحمّس للدور. لكن الرقابة المصرية اعترضت على الموضوع، فلم يبصر مشروع الفيلم النور. بيد أنّ إسماعيل أنتج فيلم "الملائكة" من إخراج رضا الباهي، من دون أن يشارك في النص، وكان الفيلم من بطولة كمال الشناوي ومديحة كامل وليلى فوزي. وقد عرض سنة 1985 ولم يحقق الإيرادات المنتظرة. 
توقفت مساهمات إسماعيل فهد إسماعيل في "ضفاف الإنتاج الفني"، وأصبح مالكاً لشركة "ضفاف الكويت للتجارة العامة والمقاولات" وهي تخصصت في إنتاج المواد الغذائية العراقية كالطرشي والكبّة، وفي إعداد التمور للبيع في الأسواق، وفي استيراد الأجبان والمعلبات من بلغاريا. وراوحت أحوال هذه الشركة بين ربح وخسارة. والجدير بالذكر في هذا الموضوع، لقاء إسماعيل فهد إسماعيل بصديق مرحلة الشباب من أيام البصرة، محمد جواد عبد الجاسم، الشهير بأبي مازن، الذي ظلّ في البصرة إلى أن انتقل للإقامة في الكويت سنة 1979، وصار الذراع اليمنى لإسماعيل فهد إسماعيل في مشروعاته التجارية، والفنية، ورفيق بقية أيام العمر حتى آخرها، وبعد وفاة إسماعيل نشر "شجون الحكايا" روى فيه تفاصيل عديدة عن الروائي الكويتي. 
برغم الانشغال بالأعمال التجارية، لم ينقطع قَطّ عن الكتابة. كان حريصاً على الكتابة كل يوم، بانتظام. فبلغت حصيلة مؤلفاته نحو أربعين كتاباً. أطلعني على بعض مسوّدات رواياته، وهي مدونة بخطه في كراسات، ولاحظت أنه كان يكتب بالقلم الرصاص ليتسنّى له محو ما لا يعجبه. ولما تآلف مع التكنولوجيا صار يكتب مستخدماً "اللابتوب". 
من مؤلفاته "القصة العربية في الكويت". وكان حريصاً على رعاية المواهب الشابة من جيل الروائيين الجدد. ومِن أبنائه الروحيين مَن أصبح علماً في مجال الرواية الكويتية، مثل طالب الرفاعي وسعود السنعوسي ووليد الرجيب. يتذكّر أنه في بداياته كان بحاجة هو الآخر إلى دعم من أدباء أبدعوا قبله. والتفت أيضاً إلى نتاج الأدباء الكويتيين، فأصدر كتاب "علي السبتي.. شاعر في الهواء الطلق" عن إبداع الشاعر الكويتي في كتابة القصيدة العمودية وقصائد تنتمي إلى الشعر الحديث. ونشر "ما تعلمته الشجرة.. ليلى العثمان" وهو دراسة تناولت سيرة الروائية الكويتية ومؤلفاتها في الرواية والقصة القصيرة. أما روايته "الظهور الثاني لابن لعبون"، فهي انطلقت من سيرة ابن لعبون، وكان من أشهر ناظمي الشعر النبطي في مطلع القرن العشرين، ويتخيل عودته وظهوره عند قبره ليحاور مستشرقاً عن الماضي والحاضر. 
لدى غزو الكويت من قبل القوات العراقية ظل إسماعيل فهد إسماعيل في داره، وانخرط في مجموعة مقاومة. وكان على اتصال بالفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شمّوط الذي لم يغادر الكويت هو الآخر، وكان يكتب يوميات يسجّل فيها أحداث كل يوم. وحين تحررت الكويت وضع هذه الأوراق الوثائقية في عهدة إسماعيل الذي قرر أن يحول الوقائع إلى رواية ملحمية. وقد أخبرتني الأديبة إقبال العثيمين التي خصصت الفصل الأخير من كتابها "رماد الروضة" للحديث عن إسماعيل فهد أيام الغزو، أنه كتب 600 صفحة، ثم مزّقها، لأنه وجد نفسه أسير الانفعال، وهو يريد لكتابه أن يكون رواية أدبية. سافر إلى الفيليبين ليكون على مسافة بعيدة، وليتخلص من تأثير عواطف الذكريات، وهناك أقام ست سنوات، أنجز فيها "إحداثيات زمن العزلة" وهي رواية من سبعة أجزاء، أولها "الشمس في برج الحوت" وآخرها "العصف" وبينهما "الحياة وجه آخر" و"قيد الأشياء" و"دوائر الاستحالة" و"ذاكرة الحضور" و"الأبابيليون". 
وعادت أحداث غزو الكويت موضوعاً رئيسياً لرواية "سماء نائية" وفيها انعكاسات من حياته الشخصية. مصير الأخ في الرواية، الاستشهاد، مشابه تماماً لمصير أخي إسماعيل، القاضي بدر الفهد. أما رواية "طيور التاجي"، فتعالج موضوع الأسرى الكويتيين في "معسكر التاجي" في بغداد، في عهدة ملازم عراقي سوف يتفهّم معاناتهم ويتعاطف معهم. وتناول في رواية "بعيداً إلى هنا" موضوع العاملات السريلنكيات في بيوت العائلات الكويتية. أما الذين يطلق عليهم لقب "بدون" أي من دون جنسية، فهم الذين عاشوا في الكويت منذ أجيال، لكنهم لم يحصلوا على الجنسية، وقد عبّر إسماعيل عن معاناتهم في رواية "في حضرة العنقاء والخلّ الوفي". 

كذلك عاوده الحنين إلى بلدة مولده، السبيليات، فكتب رواية عنها وجعل اسمها عنوانها. وأحداثها خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث أُجبر السكان على مغادرة بيوتهم وتحولت البلدة إلى "منطقة عسكرية". لكن البطلة أم قاسم لا تطيق الغربة، فتعود وتتشبّث ببيتها رغم الخطر. 
كما جعل مصر مسرح أحداث ثلاثية روائية: "النيل يجري شمالاٍ... البدايات" و"النواطير"، و"النيل الطعم والرائحة". وخصّ إسماعيل صديقه الرسام الفلسطيني ناجي العلي، مبتكر شخصية حنظلة في رسومه الكاريكاتورية التي شاعت في العالم العربي، برواية "في عهدة حنظلة" بناها على القضية الفلسطينية، وأحد رموزها ناجي العلي.  
قبل وفاته بليلة حضر ندوة أدارها طالب الرفاعي لمناقشة آخر رواياته "صندوق أسود آخر" بوجود عدد من الأدباء. لم يكن بادياً عليه التعب. لكنه إذ عاد إلى منزله شعر بضيق في التنفس واستُدعي الطبيب، فأعطاه الدواء اللازم. وصباح اليوم التالي مبكراً اتصل أسامة، ابن إسماعيل البكر، بمحمد جواد الذي يسكن على بعد خطوات، وأخبره أن والده متعب جداً، فهرع أبو مازن إلى دار الصديق، وصعد مع الابن، وفي الحمام وجدا إسماعيل متكئاً بلا حراك على حافة المقعد، مبتسماً، وكان قد أتمّ غسل يديه ومات. 

المساهمون