"بنات ألفة": تمثيلٌ وتمثّل يولّدان أفكاراً لكشف الموضوع

"بنات ألفة": تمثيلٌ وتمثّل يولّدان أفكاراً لكشف الموضوع

28 فبراير 2024
"بنات ألفة": مزيج الوثائقي بالتخييل لسرد واقعٍ تونسي (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تفتتح كوثر بن هنية فيلمها الطويل السادس "بنات ألفة"، بصوتها، موضحةً رهان الفيلم، المتمثّل في حكي قصة ألفة وبناتها الأربع، على نغمات موسيقى أمين بوحافة المُقلقة، وصورة الأم وابنتيها الصغيرتين، آية وتيسير، وراء الكلاكيت، قبل إعلانها أنّ الابنتين الأخريين، غفران ورحمة، "أكلهما الذئب".

هكذا، تفصح المخرجة التونسية، منذ البداية، عبر التجذّر في قصة حقيقية، واستدعاء خرافة "ليلى والذئب" (1698)، لشارل بيرو، عن مرجع يمزج بين الوثائقي والتخييل. لكنْ أيضاً عن همِّ تسجيلٍ يتقدّم، متوارياً وراء واجهة خيال خادعة، كما يتخفّى الذئب في قناع الجدّة، ليلتهم ليلى ذات القبّعة الحمراء. ذلك أن أصالة الفيلم لا تكمن في الاقتصار على محو الحدود بين النوعين، كما جرت العادة في الوثائقيات التخييلية، بل تتجاوز ذلك لتتّخذ من عناصر التخييل، وتحديداً مفهومي التمثّل والتمثيل، وسيلة لكشف الموضوع ورهاناته المعقّدة.

الكشف هنا ينبغي أنْ يؤخذ في معناه "الكيميائي"، كما تنكشف مركّبات مادة معيّنة بإضافة عنصر كيميائي محدّد، في أبجديات الكيمياء التحليلية. ومن هنا أيضاً حديث بن هنية عن مقاربتها باعتبارها "مختبراً صحّياً للكشف عن ذكريات ألفة وبناتها، عبر وثائقي يلتقط ظروف الإعداد لفيلم تخييلي لا يرى النور". كأنّ مادتي التوثيق والتخييل تذوبان في محلول فيلميّ، لتفصحا عن حقيقة ثالثة لا تنتمي إلى أي منهما.

يقول المفكّر الفرنسي كليمون روسي، في مؤلّفه المهمّ "الواقع وازدواجيته" (الطبعة الفرنسية، "غاليمار"، 1976)، إنّ الواقع يتمنّع عن الإدراك، بفعل انفلاته وصلافته، إلّا من خلال ازدواجية خادعة لكنّها ضرورية، ضارباً المثل بأوديب، الذي لا يفتح عينيه على واقعه إلّا حين يقوم بدورة تراجيدية تُفعّل نبوءة قتل والده، والزواج من أمّه. تنهج بن هنية دورة تمثّلية، يليها حوار وتبادل أفكار، بين الشخصيات وممثليهم، حول ما حدث وكيف عاشته، ما تتذكّره حوله وتصوّرها الحالي، بغية فتح الأعين على حقيقة ما عصف بمصير عائلة ألفة. مقاربةٌ تحيل إلى ما يعرف بفنّ القبالة، أو Maïeutique في الفلسفة الإغريقية، أي توليد الأفكار والمعاني انطلاقاً من الحوار، بالاعتماد على طرق مثل السخرية السقراطية، واستذكار الماضي والتطهير (Catharsis)، وكلّها أشياء تختبرها شخصيات "بنات ألفة" (2023)، حين تسخر، وتتذكّر، وتُطهّر نفسها من العواطف الزائدة.

لعلّ الفشل الذي تلقاه الأفلام التخييلية، عادةً، في التقاط تعقيد ثيمة تجنيد الشباب من التنظيمات الإسلامية المتطرّفة، يتأتّى من انفلات هذا الموضوع من القبض، حين يُتناول بصفة مباشرة، فلا تسوق في العادة سوى الصُور المبتذلة بواسطة الإعلام وكليشيهاته المعهودة، ما عدا استثناءات، مثل "يا خيل الله" (2012)، للمغربي نبيل عيوش، الذي يتّخذ من امتداد القصة في الزمن وسيلة للنفاذ إلى لبّ طرحه، وحيثياته السياسية والاجتماعية؛ أو التونسي محمود بن محمود في "فتوى" (2018)، الذي يحتمي من المباشرة وراء متاهة اللايقين، عندما يضيع تحقيق الأب (بعد فوات الأوان، ووقوع فأس الواقع)، في مسار الابن، وتفرّعاته الخادعة.

اللافت للانتباه أنّ هند صبري ـ التي تضطلع بدور الأم في "زهرة حلب" (2016)، للتونسي رضا الباهي، المنتمي إلى تيار الأفلام غير المقنعة، عن ظاهرة تجنيد الشبان التونسيين للحرب في سورية ـ تحضر في "بنات ألفة" لتأدية دور الأم أيضاً. ما إنْ تصل، وتشرع بإعداد الماكياج والأزياء في تلبيسها في صورة ألفة، حتى تأخذ جماليات الازدواجية في التكوّن على الصورة وشريط الصوت: الشخصية الحقيقية والممثلة في الإطار نفسه (التجاور)، مفعول المرآة الخادعة (التقابل)، التصادي عبر المزج بين صوت ألفة وتمرّن صبري على الحوار. نكتشف الممثّلتَين اللتين تؤديان دوري غفران ورحمة، عبر ردّة فعل الأم وابنتيها. تنخرط الأم في نوبة بكاء حار، مباشرة بعد ضحكها من تشابه ـ اختلاف تصرّفات الممثّلتَين والأختَين.

تلازم الهزل والتراجيديا يمثّل وسيلة أخرى لأخذ مسافة من قتامة الطرح، وأحد نقاط قوّة الفيلم التي تحصّنه من الوقوع في البؤس والبكائية. يترك غياب الأختين، والمصير الغامض الذي لاقتاه (موت؟ فرار؟ تغييب؟)، هوّة قاتمة وسحيقة وسط الحكي، تجد امتدادها في سوداوية لباس الشخصيات العصري والديني، وتقاربها الحبكة بخطوات جانبية حذرة، مُشكّلةً في الوقت نفسه عنصر جذب (Accroche)، يشحذ تشويق المشاهد لمتابعة المتبقي.

 

 

يتناول "بنات ألفة" ـ الفائز بـ"سيزار" أفضل فيلم وثائقي، في النسخة الـ49 (23 فبراير/ شباط 2024) ـ جذور اضطراب الأم، التي تعود إلى طفولتها الصعبة، واضطرارها لتأدية دور رجل العائلة، للاحتماء من الاعتداءات، وصولاً إلى مشهد الدّخلة، السريالي ببنائه وحلّه غير المتوقّع، حين تعيد تركيبه مع هند صبري ومجد مستورة، الذي يؤدّي دور زوجها العنيف، والمدمن على الكحول. تدفع بن هنية جمالية التمثّل إلى مستوى أبعد، عندما تخلط خيوط التمثيل عبر لقطة متابعة صبري ومستورة لمشهد جريء من "نورة تحلم" (2019)، للبلجيكية التونسية هند بوجمعة (تمثيل هند صبري أيضاً)، في ثوب الشخصيتين، قبل أنْ يغلبهما الضحك، فيخرجان من الشخصيتين، وينخرطان في حوار عن تقبّل المجتمع الممثل الذكر، حين يؤدّي أدواراً جريئة، وعدم مغفرته للممثلة، قبل أنْ ينفصل الشارب التنكّري لمستورة بفعل الضحك، وتحاول المسؤولة عن الماكياج إلصاقه مجدّداً، في لمسة إضافية تُحيل إلى زيف الثقافة الذكورية.

مشهدٌ حقيقي بدلالته، بغضّ النظر عن سؤال مدى عفويته، الذي لا يحوز أي أهمية، تصديقاً لمقولة البارون دي شارليس، في "البحث عن الزمن الضائع" (1913 ـ 1927)، للفرنسي مارسيل بروست: "ماذا يهمّ إنْ كان ما يحكيه حقيقياً أم لا، ما دام ينجح في أنْ يجعلني أصدّقه".

يتّخذ "بنات ألفة"، من محطة الثورة (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010)، منعطفاً أساسياً، يقلب تصوّر الأم لعلاقتها مع الرجال، إذْ تنبذ زوجها الأول، وتبحث عن الاسترشاد واستدراك شبابها الضائع، في علاقة جامحة مع سجين سابق، وتنقلب أحوال البنات من "فتيات بن علي" البريئات، اللواتي يخرجن للهتاف للزعيم الأوحد في لباس أحمرٍ زاهٍ، بمناسبة الأعياد الوطنية، إلى منقّبات يتلفّحن بأنقاب سوداء، تعكس قتامة الأفكار الدائرة في رؤوسهنّ. رغم نزعة اللقطات التوضيحية التي تقتحم، بين الفينة والأخرى، على المشاهد المساحة التخييلية الاستثنائية، التي تتيحها الوضعيات الدرامية التي تستدعيها المخرجة (لقطة سقوط القصاصات الملوّنة على رأس ألفة، مبيت رحمة في قبر)، فإن بن هنية تتوفّق في تحاشي الإثارة السهلة.

هذا يتبدّى في رهافة مقاربة تحوّل شخصيات الأخوات والاضطراب النفسي، الذي ينطوي عليه تقلّبهن بين نقيضين: التحرّر المطلق في غياب الأم، الذي يقذف برحمة وغفران إلى القوطية ومواعدة الشبان في سنّ باكرة، ثمّ ارتماؤهما في أحضان التطرّف الإسلامي، كردّة فعل على عنف الأم، بالموازاة مع انزلاق المجتمع نحو تساهل خطر وغريب مع مظاهر التطرّف، إثر وصول الإسلاميين إلى السلطة، بعد ثورة الربيع العربي.

رغم الحرص على مواجهة الأم بالدور الأساسي، الذي مارسه عنفها في تطرّف الفتيات، لا يسقط الفيلم، في أي من لحظاته، في فخّ المانوية، أو الحكم المطلق عليها، مُحافظاً إلى النهاية على تصوّر ومسافة مناسبين، يُبرزان الطبيعة المربكة لتعقيد شخصية ألفة وازدواجيتها. يبرع مجد مستورة، من جهته، في تقمّص كلّ أدوار الرجال (زوج، خليل، شاب يغازل رحمة، مأمور شرطة)، في لفتة تستدعي النقاش، مفادها فكرة أنّ جميع الذكور الذين عايشوا الإناث الخمس يتشابهون في العمق.

يحمل الجزء الثالث من الفيلم منعطفات درامية مذهلة، تبلغ ذروتها في نظرة، لا تُحتَمل براءتها، نحو الكاميرا، من طفلة تُدعى فاطمة، يعتري عينيها حورٌ جذّابٌ ومربكٌ في آنٍ. نهايةٌ تفتح فجوة سحيقة جديدة، تدفع المشاهد إلى التساؤل حول نوع الفيلم المستقبلي وشكله، الذي يُمكن أنْ يسبر غور ما تعيشه فاطمة، والتفكّر في ظاهرة التأسيل، أو ما تسميه ألفة "لعنة" انتقال الصدمات بين الأجيال، الذي يحضر، وفق تقاطع لافت للانتباه ودالّ، لا يتيحه سوى سخاء السينما، في ثلاث وثائقيات أخرى، أخرجتها نساء عام 2023: "باي باي طبريا" للفرنسية الجزائرية لينا سويلم، و"كذب أبيض" للمغربية أسماء المدير، وLittle Girl Blue للفرنسية المغربية منى عشاش، تبني فيها كلّ مخرجة، بمقاربتها الخاصة، فضاءً تخييلياً، يسمح بمقاربة قصة سلالة من النساء، تروي الحكاية التاريخية الكبرى بنَفَس تراجيدي مؤثّر.

المساهمون