أم كلثوم وبليغ... "فات المعاد"

أم كلثوم وبليغ... "فات المعاد"

11 سبتمبر 2022
كانت "حب إيه" أوّل لحن قدّمه بليغ لأم كلثوم (فيسبوك)
+ الخط -

كان تجاوب الجمهور كبيراً في دار سينما أوبرا في القاهرة، حين انفرجت الستارة ليلة الخميس الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول، عام 1960، عن سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، لتقدم وصلتها الثانية في حفلها الشهري. أخذت الفرقة تعزف لحن الأغنية الجديدة، "أنت فين والحب فين"؛ باكورة ألحان بليغ حمدي لسيدة الطرب. تأكد نجاح اللحن جماهيرياً، ولا سيما مع تكرار السيدة للأغنية في كلّ حفلات هذا الموسم الغنائي. وتغير اسمها إلى "حب إيه"، ثم كان نجاحها سبباً لاستمرار التعاون بين أم كلثوم وبليغ، الذي أصبح ملحناً موسمياً، أي يقدم عملاً جديداً في كلّ موسم غنائي للستّ. وتلك مكانة كبرى لم يحظَ بها أحد من ملحني أم كلثوم الجدد، إلّا محمد عبد الوهاب.
لكنّ الرواج الجماهيري، والنجاح التجاري، لم يكونا يوماً معياراً لقياس جودة اللحن أو رداءته. فكلّ النقاد الموسيقيين تقريباً، ومعهم الغالبية الساحقة من "سميعة" الست، يرون أنّ "حب إيه" لحن ضعيف جداً من الناحية البنيوية، وأنّ هذا الضعف ينسحب على كثير مما لحنه بليغ لأم كلثوم، وأنّ الخفة والاستسهال كانت سمة حاضرة في معظم هذه الألحان.


والنظر في ألحان بليغ حمدي لأم كلثوم، لا يعني بأي حال أنّه وزن لأعمال الرجل في عمومها، ولا رحلته الفنية بطولها وعرضها. فبليغ لحّن مئات الأغاني، وشارات المسلسلات، ووضع الموسيقى التصويرية لعدد من أهم الأعمال السينمائية، التي حققت شعبية كبيرة. لكن من المؤكد أنّ ألحانه لأم كلثوم، مثلت المحطة الأهم في مسيرته وشهرته. ألحان نالت جماهيرية كبيرة، ولا سيما بين الأجيال الجديدة، التي يحسب لها كل من يكتب في الشأن الموسيقي ألف حساب. ولا ريب أن هذه الألحان كانت دون المستوى المعتاد لكوكب الشرق، وبعضها لم يكن يليق بتاريخها ومكانتها، فما كان ينبغي لصاحبة القصائد الشوامخ، والمونولجات التاريخية تعبيراً وتطريباً أن تغني أعمالاً من نوع: "أنا وأنت ظلمنا الحب"، أو "ألف ليلة وليلة" أو "الحب كله".
يكاد يكون العامل المشترك بين المعجبين بألحان بليغ حمدي للسيدة أنهم من "الجمهور العام"، الذي يسعد بأن تكون بجواره موسيقى خفيفة، لا تحتاج إنصاتاً ولا تركيزاً. وأهم من كل هذا، أن هؤلاء المعجبين منقطعو الصلة بأغنيات أم كلثوم في عقود العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، بل والخمسينيات. وأكثرهم يظن أن أعمال السيدة هي تلك الأغنيات المتلفزة الممنتجة التي تبثها بعض الفضائيات مساء. أما من يعرفون بـ"السميعة" أو "الكلثوميين"، وهم قوم دربوا آذانهم طويلاً على تذوق النغم المركب، فتكونت لديهم ملكة يفرقون بها بين مراتب الألحان، فليس بينهم من يحتفي بالألحان البليغية، ولا يهتمون بها إلا من خلال المحافل التي أكثرت فيها السيدة من التصرفات النغمية والارتجالات، وفرضت شخصيتها الفنية الطاغية على اللحن. 
وفي عالم السماع، ومجالس منتديات الهواة، فإن لفظة "الكلثوميين" تعني هؤلاء الذين بلغ بهم الاهتمام بتراث سيدة الغناء أنهم ــ في الحد الأدنى ــ يملكون أرشيفاً كاملاً أو شبه كامل لأعمال أم كلثوم المتاحة بين يدي عشاق فنها، فإن أراد أحدهم أن يستمع إلى أغنية "دليلي احتار"، مثلاً، فإنه سيتخير محفلاً معيناً من بين محافلها الأربعة والعشرين: ربما محفلها الأول في ديسمبر 1955 بحديقة الأزبكية؟ أو محفلها الأخير في مارس 1963 أو من محفلها بمعرض دمشق الدولي عام 1957، أو من محفل  المعرض نفسه عام 1958.
وإن طلبت منه أن يسمعك أغنية "يا ظالمني"، تحير، وقال لك: "اختر وصلة من الوصلات الثلاثين المتاحة لهذه الأغنية الخالدة. أتريدها من القاهريات؟ أم الدمشقيات؟ أم البيروتيات؟". بين هؤلاء، نادراً نجد أحداً يرى أن ألحان بليغ مثلت إضافة فنية مهمة لأم كلثوم، ولا أعلت من صرح مجدها الذي شادته مع القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي.
في الموسوعة الكبرى التي وضعها الأخوان إلياس وفيكتور سحاب عن أم كلثوم، وعند الوصول إلى أغنية "حب إيه"، بدأ الناقد فيكتور سحاب تحليله للأغنية بقوله: "هذه أولى أغنيات أم كلثوم التي لحنها بليغ حمدي، وهي مثل الطابع العام في ألحان بليغ، تتسم بجمل لحنية قصيرة النفس". وفي تعليقه على أغنية "أنا وأنت ظلمنا الحب"، قال سحاب: "هذه الأغنية مليئة بالألحان الجميلة، لكن بعض المواضع تشكو خللاً بنيوياً يضعفها في الإجمال".
ولعلّ كلام سحاب يذكرنا بما قاله محمد عبد الوهاب في مذكراته عن بليغ؛ إذ رأى أنّه "يضع ومضات من الألماس على تراكيب من صفيح". وهذا وصف دقيق من عبد الوهاب، فنحن لن نعدم في ألحان بليغ بعض الجمل الجميلة المطربة، لكنها دائماً تأتي في سياق بنيوي هش وضعيف.


أما إلياس سحاب، وفي الفصل الذي خصصه للحديث عن ملحني أم كلثوم، فقد أوضح الأمر بتشبيه من يعملون في التلحين والتأليف الموسيقي، بممارسي رياضة السباحة، إذ ينقسمون إلى سباحي مسافات طويلة وسباحي مسافات قصيرة، ولكلّ فئة خصائصها وسماتها التي لا تشاركها فيها الفئة الأخرى. وكان بليغ من هؤلاء المتميزين في الأعمال القصيرة والخفيفة، وليس في المطولات الكبرى التي كانت هي الأساس الدائم في أغاني أم كلثوم المحفلية. 
إنّ المستمع الذي اعتاد تذوق شواهق السنباطي، ذات الإحكام التام، والبناء الراسخ، وروائع زكريا الممعنة في الشرقية، والجامعة بعبقرية بين التعبير والتطريب، ونفائس القصبجي ذات الأبعاد الفكرية والتجديد المدروس، يصعب عليه تفهم قبول السيدة لأعمال هي من الضعف والخفة والتفكك بمكان.

لقد سيطرت على أم كلثوم في هذه المرحلة رغبة عارمة في التجديد، أوقعتها في اختيارات "تجارية" تعلم السيدة الكبيرة جيداً أنّها دون المستوى المعتاد، لكنّها تعلم أيضاً أنّها ستلقى رواجاً جماهيرياً يضمن لها استمرار التفاف الشباب والأجيال الجديدة حول صوتها.
ولعلّ من سوء حظ بليغ حمدي، أنّ أكثر الأعمال التي طلبت منه السيدة أن يلحنها، كانت ضعيفة جداً في كلماتها، بل بعضها يصل إلى حد الركاكة. فما كان يخطر ببال أحد، أنّ السيدة التي حرصت طوال رحلتها الفنية على أناقة الكلمة وعمقها، وخاضت مع المؤلفين نقاشات حادة لتغيير كلمة أو حذف بيت، يمكن أن تقبل كلمات تقول: "ياللي ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه... قلتوا عليه مش عارف إيه... العيب فيكم يا في حبايبكم... أما الحب يا روحي عليه". أو أن تقول: "والعمل إيه العمل... ما تقولي أعمل إيه، أو أن تقبل كلمات تقول: يا حبيبي، الليل وسماه... ونجومه وقمره وسهره... وأنت وأنا... يا حبيبي أنا... يا حياتي أنا... كلنا كلنا... في الحب سوا... والهوى... آه منه الهوى... سهران الهوى... يسقينا الهنا... ويقول بالهنا". أو أن تقدم لجمهورها العريض الذواق كلمات تقول: "حبيبي دانا مخلوق علشانك... يا دوب عشانك... عشانك أنت... وقلبي عاش على لمس حنانك... يا دوب حنانك... حنانك أنت". وقد كانت كلّ هذه النصوص الضعيفة من نصيب بليغ حمدي، وهو أمر تتحمل أم كلثوم مسؤوليته وحدها. فلم يكن بليغ يملك من التاريخ ولا الرصيد الفني، ولا حتى السن، ما يمكنه من مناقشة السيدة في نص اختارته وقررت أن تغنيه.
امتلك بليغ قدرة كبيرة على مخاطبة الجمهور الواسع، وشد انتباهه بالإيقاعات أو الآلات أو الجمل الموسيقية المباشرة، لكنّ قدراته لم تؤهله ليكون أحد بُناة صرح أم كلثوم، ولا يتأثر رصيد السيدة الفني في قليل ولا كثير لو حُذف منه ما لحنه بليغ، الذي صدّق هواة "المزيكة الحلوة" أنه كان "أمل مصر في الموسيقى".

كان بليغ تجلياً ونتاجاً لمسيرة "تبسيط الخطاب الغنائي" التي تولى أمرها محمد عبد الوهاب منذ أواخر الثلاثينيات. هذه المسيرة التي قامت على ركيزتين أساسيتين: الأولى، إخلاء اللحن من أية تعقيدات أو جماليات تحتاج إلى التركيز والانتباه وتدريب الأذن، والثانية، إدخال الروح الغربية في تضاعيف اللحن ممزوجة بالمقامات العربية. هذا ما كان... لكن... "تفيد بإيه يا ندم". 

المساهمون