أفلام عن الأهل: اغتسالٌ سينمائيٌّ قاسٍ

09 نوفمبر 2022
أحمد مجدي في "باب الوداع": الخلاص المفقود (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

الأهل حاضرون في أفلامٍ عربية مختلفة. الوثائقي أنشط في تحقيق أفلامٍ تروي، عبر فردٍ من الأهل، حكاية عائلة وسيرة بلد واجتماع وذاكرة. الروائيّ غير متورّط، كثيراً، في هذا. أفلامه أقلّ عدداً من ذاك المصنوع في الوثائقي، من دون أنْ تفقد الأفلام الروائية جماليات تناولٍ ومعالجة وسرد وتصوير وتقنيات وتمثيل.

كلامٌ قيل مراراً عن حيوية السينما الوثائقية العربية في معاينة أحوال أهلٍ وحكاياتهم. من لبنان إلى المغرب العربي، مروراً بمصر، تزداد وتيرة الإنتاج الوثائقي، الذي يستعيد تاريخاً وحالاتٍ، ويطرح أسئلة وهواجس، عن الهوية والجذور والعلاقة بأمّ أو أبٍ أو جدٍّ/جدّة، أو بعمٍّ. الروائيّ المصري يُنجز أفلاماً ترتكز على العلاقات الملتبسة والقاسية بين أهلٍ وأبنائهم/بناتهم، يكونون (الأبناء/البنات) مخرجين/مخرجات. "مستوحى من أحداثٍ حقيقية"، المبثوثة على الشاشة في بداية "ابنتي" (روائي، 2021) للمصري مازن لطفي، تأكيدٌ على حساسية النصّ والصورة في سردها سيرة ابنٍ مُقيمٍ مع والدته، المنهارة تدريجياً بعد وفاة الزوج/الأب.

الأب/الأم حاضران في "الخروج للنهار" (2012) لهالة لطفي، و"باب الوداع" (2014) لكريم حنفي. لكنّ الحضور يختلف بين فيلمٍ وآخر، إذْ يكون مباشراً في الأول (أسرة فقيرة، تتألّف من أب مُقعد وأم ممرضة وابنة منشغلة بهما على حساب ذاتها وروحها وانفعالاتها)، بينما يكتفي الثاني بأمِ وجدّة، وحضور غير مباشر، وغير واضح شكله الإنساني والنفسي والماديّ، لأبٍ يغادر من دون عودة. لا أب في "ابنتي"، بل أمّ وابنها، بعد تخلّي الابن الثاني/الشقيق عن المنزل والعائلة، لعجزٍ فيه عن تحمّل وطأة المرض والانهيارات الحاصلة في العائلة والمنزل، وفي الحياة المنبثقة منهما.

المشترك بين الأفلام الثلاثة متنوّع، رغم اختلافٍ في المعاينة والسرد. الإيقاع هادئ، رغم غليان ذاتٍ وروح وجسد. غياب "نجومٍ"، أو ممثلين/ممثلات معروفين، أساسيّ، مع أنّ لبعضهم/بعضهنّ مكانةً بارزة في السينما المصرية (سلوى خطّاب في "باب الوداع" مثلاً). هذا يُحسَب للجميع. هذه أفلامٌ أولى لمخرجيها. الحاجة إلى تمثيلٍ، يعكس نصّاً وحالات، أساسية. عدم الاحتراف إضافةٌ، خاصةً أنّ للمخرجين الثلاثة، في أفلامهم هذه، لمسات باهرة في صنع سينما مختلفة في كيفية اشتغالاتها البصرية والدرامية. الحميميّ أساسيّ أيضاً، فالعلاقة بأهلٍ، إنْ تكن جيدة أمْ غير جيدة، لا يزال كشف بعض خفاياها وتفاصيلها وحميمياتها، على الأقلّ، مُحرّماً، فالتربية والموروث الاجتماعي يُنمّيان فكرة حجب الداخل (العائلة/المنزل) عن الخارج كلّياً.

الأفلام الثلاثة تكسر هذا الحجب، فالسينما العربية عامة، التي يصنعها مخرجون/مخرجات شباب منذ أعوامٍ مديدة، تتحرّر من "تابوهات" عدّة، رغبةً في تحرير الذات من قيود الصمت والانكفاء، أو ردّاً على هذه القيود، وسعياً إلى تحطيمها. الذاتيّ أساسيّ للغاية، وأفلامٌ كهذه (إلى ما يُنجز في الوثائقي العربي أيضاً) حوار مفتوح مع الذات أولاً، من أجل كشف مخبّأ، وفهم حالة أو انفعال، واغتسال من تراكماتٍ وأثقال، وحصول على إجاباتٍ، أو بعض إجابات، ستكون (الإجابات أو بعضها) تحريضاً على مزيدٍ من أسئلة وهواجس. الحوار مع الذات عبر أهلٍ، في الروائي والوثائقي، منبع الاشتغال، وأحد أفراد العائلة محور أساسيّ للحوار.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

"ابنتي" اختبار جديد في استعادة الشخصيّ، بحثاً عن مخبّأ أو إجابة. الاغتسال الروحي أداة للفهم، بل محاولة للفهم. التصفية، متنوّعة الأشكال والمضامين، يُراد لها تفعيل الحوار والبحث. منزلٌ عائلي قديم يريد المالك بيعه، وهناك أوراقٌ ضرورية على الابن أنْ يوقِّع عليها لإنهاء المسألة. ابنة الخال تحثّه على المجيء. دخوله المنزل، المفتوح فقط عند تنظيفه بين حين وآخر، أقرب إلى دخول في الذات، عبر تذكّر تفاصيل عيشٍ، يُثقله مرضٌ والتصاقٌ بين أمٍّ وابنها، مع ما في الالتصاق من ضغوط وارتباكات وقهرٍ وانغلاق وتقوقع. علاقة مُدمِّرة، والعودة راهناً غير متمكّنةٍ من إصلاح ضررٍ، ففي الابن شيءٌ من تعلّق مستمرّ بوالدته المتوفاة، رغم ما يُظهره من وجع وتوق إلى خلاصٍ.

هذا ضغطٌ قاهرٌ، يُشبه ما تتعرّض له ابنة الأب المقعد والأم الممرّضة، في "الخروج للنهار". يُشبه ما يعيشه الابن في كنف جدّة وأمّ، في "باب الوداع". هذا الالتصاق قاسٍ، يُحطِّم أبناء/بنات، بتسلّط (معنوي؟ روحي؟ انفعالي؟) أمّ/جدّة، تحديداً، عليهم/عليهنّ، أو بسطوة مرضٍ، يُحوّل المنزل برمّته، كالحياة اليومية، إلى اختناقٍ وألم.

الإيقاع الهادئ، رغم ضغوط وأحمال ثقيلة وارتباكات وتحطّم، يجمع الأفلام الثلاثة في نوع سينمائي، يُتيح للكاميرا أنْ تعكس، ببطءٍ متعمَّد، يوميات أناسٍ، بتفاصيلهم ومتاعبهم وأشجانهم واضطراباتهم. حركة الكاميرا في "الخروج للنهار" (مدير التصوير: محمود لطفي. المُصوّر: أمجد رياض) تتوغّل في ثنايا الروح، عبر كشف المستور في زوايا المنزل والنفوس والعلاقات. في "باب الوداع" (تصوير: زكي عارف)، تقترب حركة الكاميرا من مفهوم التجوّل، الذي يُفكِّك ما تلتقطه من أشياء وأناسٍ وأصوات، قبل أنْ يجمعها توليفٌ (أمير أحمد) يعكس المُحمَّل في الصُوَر والتصرّفات والملامح.

أما "ابنتي"، فبُطء تصويره يُفترض به أنْ يترافق وبُطء السرد المليء بكلامٍ يُقال بنبرة شعرية، خاصة في صوت الراوي. التصوير (مازن لطفي، وهناك لقطات قليلة في اليابان، مُصوَّرة بكاميرا باسم طه) يُزيد من حدّة الضغوط، ناقلاً إياها من داخل المنزل والعلاقات إلى خارج الشاشة، بتقريب الكاميرا من الوجوه، وإزالة المحيط بالشخصيات، في لقطات مقرّبة للغاية، إلى حدّ الاستفزاز أحياناً.

مُشاهدة "ابنتي" مؤخّراً دافعٌ إلى تعليق نقدي، يستعيد فيلمي هالة لطفي وكريم حنفي، لتشابه النواة الدرامية المرتبطة بالعلاقة بأهلٍ وأقارب. هذه علاقة مشغولة، عربياً، في أفلامٍ روائية ووثائقية، لما فيها من تفاصيل وهوامش وأساسيات، قابلة كلّها لتكون ركيزة، تصنع منها غالبيةُ الأفلام نتاجاً سينمائياً باهراً.

المساهمون