"نوتشا" فلاديمير مونكيف: تدمير عالم ليبقى آخر

"نوتشا" فلاديمير مونكيف: تدمير عالم ليبقى آخر

14 ديسمبر 2021
أول فيلم روائي طويل للمخرج (الملف الصحفي للفيلم)
+ الخط -

عبر طرح بسيط ومتماسك فنياً، يعاين "نوتشا" (Nuuccha)، لفلاديمير مونكيف، قسوة الحياة والطبيعة والبشر، وقبلها بطش الاستعمار والاحتلال، وما يُلحِقهما عادةً بالسكّان الأصليين، عبر أحد الوجوه القبيحة للاحتلال الروسي القيصري لإحدى البقاع المنسية في سيبيريا، في نهاية القرن الـ 19.
"نوتشا"، دراما نفسية واجتماعية وسياسية. أول روائي طويل لمونكيف (1987)، المولود في "جمهورية ساخا"، المعروفة أكثر باسم "ياقوتيا"، أحد الكيانات الفيدرالية الروسية، التي تقع في شمال شرق سيبيريا، حيث تصل درجة الحرارة إلى ناقص 35. في فترة الاستعمار القيصري، تقلّص عدد سكانها، الـ"ياكوت"، إلى 70 في المائة.
يستند السيناريو (فلاديمير مونكيف) إلى قصة قصيرة للأديب والمؤرّخ البولندي فاسلاف سيروسيفسكي، الذي كان منفياً أعواماً عدّة في سيبيريا، في القرن الماضي. والفيلم ـ المعروض في الدورة الـ55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" ـ فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة "شرق الغرب"، المخصّصة لعرض الأفلام الروائية الطويلة من شرق أوروبا ووسطها تحديداً.
في فترة حكم الإمبراطورية الروسية، كانت "ياقوتيا" منطقة سجون ومُستوطنات للمُدانين والمغضوب عليهم من النظام. المناخ القاسي، والغابات اللامتناهية، والمسافات الشاسعة بين المستوطنات، كانت بمثابة أسوار بلا حُراس. لكنْ، يبدو أنّ الجُناة لم يحترموا التقاليد البدوية للسكّان المحليين. يتناول "نوتشا" (أي الروسي بالياقوتية) علاقة الدخيل ـ السيد، ببساطة ومن دون تعقيد كبير؛ ويُقدّم صراع عالمين، لا مجال فيهما لفهم مبادئ حياة كل واحد منهما. في ظروفٍ كهذه، يستحيل الحوار. فقط تدمير عالمٍ ليبقى الآخر. لذا، يُقدّم الفيلم صورة مجازية عن وضع المُستَعمَرين، وما حدث لهم على أيدي مُستعمِريهم، وأقلّه الذُلّ والقهر والاغتصاب.


في منطقة نائية، يعيش الفلّاح خابتزي (بافيل كولَسوف) في عزلة، حتى عن القرية الصغيرة التي يقيم فيها أغلب السكان المحليين، مع زوجته كيريميس (إيرينا ميخائيلوفا). خابتزي ضعيف البنية، لكنّه يعمل بجِدّ ومثابرة. يتحدّث الياكوتية والروسية بشكل جيد نسبياً، بعد تمضيته 3 أعوام في الخدمة العسكرية. كيريميس الأمّية تبدو طفلة ساذجة، فهي ضئيلة الحجم وخجولة. لا تفهم اللغة الروسية ولا تتحدّث بها. في بداية الفيلم، يتّضح أنّهما فقدا لتوّهما طفلهما الثاني.
طوال اليوم، ويوماً تلو آخر، يجزّ خابتزي العشب، ويقطع الأخشاب، وينصب الفخاخ، ويتفقّد سلال صيد الأسماك. بينما كيريميس تدبّر شؤون المنزل، وترعى البقرة الوحيدة التي يملكانها، وتصنع بعض منتجات الحليب، وتتحايل لتوفير قدر من الطعام، وتحاول التغلّب على محنة موت مولودهما، وعلى الصعوبات الجسدية غير العادية التي تتعرّض لها، لكسب لقمة العيش من هذه الأرض الملعونة.
رغم الصيف السيبيري الدافئ والأخضر، على غير العادة، تبقى الفخاخ التي يضعها خابتزي في الغابة خالية، والسلال التي يرميها في البحيرة يومياً فارغة من الأسماك. لذا، يُعلن الشامان المحلي، بعد أداء طقوس دينية وروحية، أنّ الأمر غير مُجد، لأنّ أرواح الغابة والمياه تخلّت عن هذا المكان.

فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة "شرق الغرب" في مهرجان كارلوفي فاري

تبدو الآفاق قاتمة ورهيبة بالنسبة إليهما. يشتدّ بهما الجوع والفقر. تقول كيريميس: "لقد نسيت طعم اللحم". لذا، يذهب خابتزي إلى القرية بحثاً عن عمل أو مساعدة، والأهم عن طعام، من أحد زعماء الياكوت (إينوكينتي لوكوفتسيف)، في أقرب مستوطنة. طاغية صغير، يتناول الطعام بشراهة، بينما تنتقده والدته (زويا باجينانوفا) بسخرية لاذعة لطاعته العمياء للسلطات، التي حوّلت أراضيهم إلى سجن روسي كبير.
بدلاً من مساعدة خابتزي على مواجهة صعوبات فصل الشتاء المقبل، ولو بقليل من الدقيق، يأمره الزعيم بإيواء أحد السجناء السياسيين الروس، كوستا (سيرغي غيليف)، المحكوم عليه بالسجن 10 أعوام. صاحب ملامح حادة، وبنية جسدية مختلفة تماماً عن شعب الياكوت. يعود خابتزي إلى كيريميس من دون عون أو إمدادات، لكنْ مع فمٍ إضافي، يتعيّن عليهما إطعامه وحراسته.
الديناميكية بين هؤلاء الثلاثة تُحرّك الفيلم نحو تصاعد حتمي لحبكةٍ، رُسِمت جيداً جداً منذ البداية. يتّفق كوستا وخابتزي، ضمنياً، على هدنة مستقرّة، مشوبة بالحذر وبعض الودّ. في النهاية، تتفوّق مطالب البقاء على قيد الحياة على أي اعتبارات أخرى. من جهتها، تبقى كيريميس حذرة وباردة إزاء الوافد الجديد، غير المرغوب فيه، و"كريه الرائحة"، كما تقول.
يستدعي الزعيم خابتزي إلى القرية لمساعدة العمال في بناء كنيسة. تُترك كيريميس وحدها للاعتناء بكوستا، الذي يُعاني تدهوراً صحياً خطراً، بعد إخفاقه في الهرب. ترعاه، وفي الوقت نفسه تواظب على شؤون الحياة اليومية، ومواصلة ترميم الكوخ. مع تطوّر الأحداث، وفي مواجهة شرسة، يتضح أنّه يمكن أقل روسي أن يعتبر نفسه متفوّقاً على أعلى زعيم من السكّان الأصليين. ببساطة، يحقّ له أن يأخذ أو يسلب أو يغتصب، حرفياً، ما لا يُمنح له بحرية، أو عن طيب خاطر.
في "نوتشا"، يقدم فلاديمير مونكيف تسلسلات مشهدية بصرية لافتة للانتباه، عُزِّزَت بشكل كبير عبر تصوير رائع وكئيب في آنٍ واحد، للمصوّر دينس كليبليف، عكس إلى حدّ بعيد أسلوب حياة الياكوت، وملابسهم ولغتهم وتقاليدهم وطقوسهم. تجلّى هذا مثلاً في مشهد قتل رحيم، غاية في الغرابة، يقوم به الزعيم، بعد أنْ طلبت منه والدته الرحيل عن الحياة. تضمن الطقس قبراً مفتوحاً، وزيّاً احتفالياً، وترنيمات، وما يشبه أحشاءً معوية لحيوان توضع فوق الرأس، ثم في القبر، وإهالة التراب عليها.

بصرف النظر عن أصالته وغرابته وقسوته، نُفّذ المشهد بفنيّة وغموض ساحرين وفريدين. إجمالاً، في الفيلم، يُلاحَظ ذكاء المخرج في عدم الافتتان والمبالغة والغرق في التفاصيل الإثنوغرافية والفولكلورية والسياسية المباشرة، زمنياً ومكانياً، لتلك المنطقة الثرية والمجهولة من العالم.

المساهمون