ولماذا كل هذا الإسراف سيادة اللواء؟

30 أكتوبر 2017
أبو بكر الجندي يعلن عن تعداد سكان مصر(العربي الجديد)
+ الخط -
قبل أيام خرج علينا اللواء أبو بكر الجندي، رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في مصر بتصريح غريب أقرب للنكتة السمجة والسخيفة التي لا يصدقها عقلٌ ولا منطق ولا حتى طفل صغير، حيث قال في لقاء تلفزيوني إن المواطن المصري يستطيع أن يعيش بـ322 جنيهاً "ما يعادل 18 دولاراً" شهرياً، وأن "الإنسان لو عايز يبقى على قيد الحياة ويأكل ويشرب يكفيه هذا المبلغ."!

وحتى لا يأخذ أحد كلام اللواء على محمل الهزل، أو يظن أن الرجل يطلق نكتة تشبه نكتة "انتظروا تراجع سعر الدولار إلى 4 جنيهات"، فقد أكد أن كلامه حقيقة لا شك فيها وأن الـ 322 جنيهاً تكفي المواطن للبقاء على قيد الحياة.

لكن ماذا عن تلبية الاحتياجات المعيشية الأخرى سيادة اللواء؟

يجيب بأن 482 جنيهاً "ما يعادل 27.38 دولاراً" تكفي للمسكن والملبس والمواصلات، وقد يرفع الرجل الرقم إلى 500 جنيه في حال إذا ما أردنا تلبية احتياجات أخرى للمواطن منها التعليم والعلاج والنقل والمواصلات وغيرها من الأمور المعيشية والحياتية.

وقبل التعليق على كلام اللواء أبو بكر الجندي أود الإشارة هنا إلى أنه يجب أن نأخذ كلام الرجل على محمل الجد لا الهزل لسببين؛ الأول يتعلق بأهمية الرجل ومكانته في السلم الوظيفي بالدولة والموقع الخطير الذي يشغله، والذي يفرض عليه أن يقيس تصريحاته بميزان من ذهبٍ كما هو الحال مع محافظ البنك المركزي، فاللواء أبوبكر الجندي يحمل درجة وزير ويُعامل مالياً ومعنوياً حسب هذه الدرجة.

والثاني يتعلق بطبيعة الجهاز الذي يتولى إدارته منذ سنوات حكم حسني مبارك والذي يعد من أخطر وأهم الأجهزة في مصر، فالجهاز هو المسؤول عن إحصاء دبّة النملة في البلاد مثل عدد السكان والمواليد الجدد والوفيات والموظفين بالدولة والمنشآت الحكومية والمصانع والأراضي الزراعية وغيرها، كما يرصد إمكانيات المجتمع الاقتصادية والمالية وحجم الودائع في القطاع المصرفي والدين العام المحلي والخارجي، ويرصد الجهاز كذلك مؤشرات اجتماعية مثل حالات الزواج والطلاق وغيرها.

ومن أبرز المؤشرات التي يرصدها الجهاز كذلك معدلات التضخم وتحركات الأسعار والفقر والبطالة وغيرها من المؤشرات المتعلقة بمعيشة المصريين.

ولنأتِ لتصريحات اللواء أبو بكر الجندي المثيرة التي أطلقها خلال لقاء تلفزيوني قبل أيام؛ مبدئياً أنا أصدّق كلام اللواء من أن المواطن المصري يستطيع أن يعيش بـ 482 جنيهاً شهرياً وربما أقل من هذا المبلغ في حالتين:

الحالة الأولى

أن يكون هذا المواطن وزيراً بالحكومة أو من كبار المسؤولين بالدولة، يعني يكون مثل سيادة اللواء أبو بكر الجندي أو غيره من لواءات الجيش والشرطة ورؤساء الهيئات الاقتصادية، فهؤلاء ليسوا بحاجة أصلاً لأموال ينفقون منها على المأكل والملبس والمواصلات وحتى السفر والتنزه، فهم يحصلون على مزايا لا حدود لها، أسطول من سيارات المرسيدس والجيب تقل الوزير أو المسؤول من بيته لمقر عمله يومياً، وربما أسطول مماثل أو أقل يقل أسرة المسؤول إلى المدارس والجامعات ومقار العمل وللأندية الرياضية حيث يتريضون، وكذا تقلهم إلى المحال التجارية والمولات الكبرى ومصففي الشعر أو الكوافير.

وكبار المسؤولين يحظون كذلك بإقامة مجانية ومسكن واسع يقع في منطقة راقية حيث يحصلون على مسكن مجاني من الدولة أو شبه مجاني وبتقسيط مريح وعلى سنوات طويلة، كذا يحظون بعلاج مجاني في مستشفيات 5 نجوم، وكذا يتريضون ويتفسحون بأندية رياضية وفنادق معفية من الضرائب، وبالتالي لن يضطر المسؤول إلى أن يضع يده في جيبه لسداد ثمن بنزين أو علاج أو غيره.

حتى الدروس الخصوصية، فإن هؤلاء معفيون من تكلفتها بحكم الواقع، فالمدرسون الملتحقون بالخدمة العسكرية يقومون بهذا الواجب على أكمل وجه مقابل الحصول على امتيازات مثل الإجازات المفتوحة وغيرها، ولن يدفع المسؤول شيئاً لحراسته وأسرته، فالحراسات المجانية متوافرة حيث كان ظل المسؤول، ولن يتحمل هؤلاء مصروفات دراسية، وهنا لن يحتاج سيادة اللواء أو المسؤول أصلاً إلى الـ 482 جنيهاً التي يتحدث عنها أبو بكر الجندي، بل بمقدوره أن يضيف المبلغ لرصيده في البنوك، إضافة إلى الراتب الذي يحصل عليه شهرياً والذي ربما لن يتم مسه.

الحالة الثانية

التي يمكن معها القول إن مبلغ الـ 482 جنيهاً سيكفي تغطية احتياجات المواطن الأساسية لمدة شهر هو أن يكون لدينا مواطن فقير معدم يتخذ من الشوارع والأرصفة مقراً له، يتسول طعامه وقوت يومه من المارة، يمد يده لكل من يقترب منه، بل ربما لا يحتاج لسيولة أصلاً، فأولاد الحلال يتكفلون بكل شيء.. طعامه وشرابه، والرصيف يتحمل تكلفة السكن.

هنا سنفترض أن هذا المواطن لن يمرض أبداً وليس له عائلة مسؤول عنها، وليس له أبناء يسدد لهم مصروفاتهم الدراسية، وغير مطالب بسداد آلاف الجنيهات ثمناً للدروس الخصوصية التي يدفعها أبناء الطبقة الفقيرة والمطحونة.

تصريحات اللواء الجندي تعبر عن الحالة المزرية العامة التي تعيشها البلاد، وتعبر كذلك عن مزاح سائد بين كبار المسؤولين يؤمن بأن المواطن الفقير سيصدق كل ما تتقاذفه ألسنتهم من أكاذيب، فكما صدق أكذوبة "مش أحسن ما نكون زي سورية و العراق"، والإرهاب المحتمل وبيع سيناء لقطر وتركيا، سيصدق كذلك التصريحات الفنكوشية التي تخلو من العقل والمنطق، فما دامت وسائل الإعلام تصفق لكل تصريح فنكوشي صادر عن مسؤول وتخصص له المساحات الزمنية والورقية، فلماذا لا يواصلون أكاذيبهم، فذاكرة المصريين عندهم كالسمكة تنسى كل شيء، وما تصريحات مشروع إقامة مليون وحدة سكنية وبيع الفرخة بـ 75 قرشاً وكيلو اللحمة بجنيه واحد واستصلاح 1.5 مليون فدان ومليارات قناة السويس وخفض الأسعار حتى ولو ارتفع سعر الدولار عنهم ببعيد.

دلالات
المساهمون