تونس وفخاخ صندوق النقد الدولي

07 مايو 2021
أزمة الاقتصاد التونسي تستفحل بسبب كورونا (فرانس برس)
+ الخط -

في خضمّ أزمة سياسية واقتصادية حادة، يستعد وفد الحكومة التونسية برئاسة رئيس الوزراء هشام المشيشي للمغادرة إلى واشنطن قريباً، لعرض برنامج إصلاح اقتصادي على صندوق النقد الدولي، في مسعى للحصول على قرض بمقدار 4 مليارات دولار، وذلك لمواجهة الأزمة العاتية التي يمر بها الاقتصاد التونسي.

وقد أصبح من الواضح أن هناك ما يشبه الإجماع في الداخل التونسي على أن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بات الحل الوحيد المتبقي بعد استفحال الأزمة الاقتصادية مؤخراً، كنتيجة لتداعيات فيروس كورونا الذي ضرب كل قطاعات الاقتصاد التونسي، وفي مقدمتها القطاع السياحي، العماد الرئيسي لاقتصاد البلاد.

وتدعم هذا الاتجاه بشدة بعض الخلافات السياسية الحادة والمعلنة بين الرئيس من جهة ورئيس البرلمان وحركة النهضة من جهة أخرى، الأمر الذي أجج المظاهرات والإضرابات، ووصل الأمر إلى قطع بعض الطرق الهامة.

هل خطر الإفلاس يهدد تونس حقاً؟

تواترت، خلال الأشهر الماضية، التصريحات الرسمية حول المشكلات الكبرى التي تهدد الاقتصاد التونسي، لا سيما في ظل تراجع مؤشراته الكلية الرئيسية، وأن هذه المشكلات قد تؤدي إلى الإفلاس حال لم تلجأ الحكومة التونسية إلى صندوق النقد الدولي.

وقد أعلن وزير المالية والاقتصاد، علي الكعلي، ذلك صراحة أمام البرلمان خلال جلسة عامة، قائلاً إن البلاد بحاجة إلى الاقتراض مجدداً، لا للاستثمار، بل لتسديد ديونها ولمواصلة صرف الجرايات ومنح التقاعد، مؤكداً أن القيمة الإجمالية للقروض التي وقعت برمجتها في ميزانية 2021 تقدّر بنحو 18.4 مليار دينار، أي نحو 6 مليارات دولار. كما تكرر مصطلح الإفلاس مراراً على ألسنة مسؤولين حكوميين آخرين.

ولم يوضح هؤلاء ماذا يقصدون بهذا الإفلاس، فهل تعجز تونس عن دفع الرواتب والمعاشات، أم ستتوقف عن سداد ديونها الخارجية، وربما كليهما، ولكن أغلب الظن أن الأمر به بعض المبالغة، وربما استسهال النتائج المترتبة على اللجوء إلى الصندوق، وربما يعكس جوانب مساندة سياسية تحتاجها القيادة الحالية إلى جوار العوامل الاقتصادية، لا سيما في ظل إهمال وسائل أخرى قد تشكل بديلاً، ولو مؤقتاً، للتبعية الحتمية لقوى الهيمنة العالمية ممثلة في الصندوق.

فالدولة قادرة على سداد عجز الرواتب والمعاشات، حتى من خلال طبع النقود. وسيتحمل المجتمع فاتورة التضخم وانخفاض قيمة العملة كما يتحملها حاليا بالفعل، أو من خلال قروض صغيرة من دول شقيقة أو منظمات إقليمية أو دولية أخرى بخلاف الصندوق.

وكذلك يمكن الاعتماد على الاقتراض ببيع سندات بالعملات الأجنبية في الأسواق الدولية، مع رفع سعر الفائدة، وتقديم ضمانات جيدة لتفادي انخفاض التصنيف الائتماني للاقتصاد التونسي وضمان الإقبال، وكذلك غابت دعوة الاستثمار الخاص المحلي والعربي انطلاقاً من المقدرات الاقتصادية الوطنية غير المستغلة، خاصة الريعية منها، في توفير بعض الأموال التي تساعد على الأقل في تأجيل الأزمة.

أما الدين الخارجي، فمن الممكن إجراء مناقشات جادة مع الدائنين بمظلة نادي باريس أو وسطاء آخرين، حول إمكانية تأجيل السداد وإعادة هيكلة الالتزامات، بما يراعي الظرف الاقتصادي العالمي الذي يعاني منه الجميع، والظرف المحلي التونسي. ومن المرجح أن الكثير من الدول الدائنة لم تكن لتمانع في إعادة الهيكلة، في ظل توافر تلال السيولة الناجمة عن سياسات التيسير الكمي التي اتبعتها البنوك المركزية الكبرى في العالم.

من المرجح أن تكرار مصطلح الإفلاس والإلحاح عليه لم يكن فقط للتحذير من الوضع الاقتصادي المتردي الذي تتعلل فيه الحكومة بظروف الوباء، وإنما هو أيضاً لتهيئة الشارع التونسي الداخلي لتقبل اشتراطات صندوق النقد الدولي، والذي سيكون هو ضحيتها الأولى، لأنه ببساطة لا يوجد طريق بخلاف ذلك من وجهة نظر الحكومة التونسية.

بالطبع تتجاهل تلك التحذيرات بيان أن الخلافات السياسية وضياع البوصلة الاقتصادية وغياب الاستراتيجيات والسياسات الحكومية، هو من أوصل البلاد إلى هذه الحافة، بل ربما سارعت بعض القوانين والإجراءات من سرعة السقوط، مثل الزيادات الضريبية الأخيرة التي ضربت المناخ الاقتصادي الداخلي بشدة، كما تتجاهل تلك التحذيرات شرح الفرص البديلة التي يمكن اللجوء إليها بخلاف صندوق النقد تفادياً للضريبة القاسية على المواطن التونسي، والذي لم يؤخذ رأيه بصورة جدية.

ربما يكون نجاح الحكومة التونسية في الحصول على قرض من الاتحاد الأوروبي مؤخراً خير مثال على وجود طرق أخرى بعيدا عن الصندوق، حيث أعلن سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، ماركوس كورنارو، أن الاتحاد وافق على قرض بدون فائدة بقيمة 600 مليون دولار لتونس، وعلى فترة سداد 20 عاما، وأن نصف القرض (300 مليون يورو) سيحول للميزانية التونسية خلال أسابيع، على أن يصرف النصف الآخر قبل نهاية عام 2021، بناءً على مدى التزام تونس بالإصلاحات، وأن القرض يأتي في إطار جهود الاتحاد الأوروبي لمساندة تونس في تخفيف التداعيات الاقتصادية لوباء كوفيد-19.

تراجع حاد لمؤشرات الاقتصاد

لا تعني السطور السابقة إنكار التراجع الكبير لمؤشرات الاقتصاد التونسي، ولكن من المهم التأكيد على أن السياسات الاقتصادية الحكومية هي من أوصلت الاقتصاد إلى هذه الحافة، وأن قرض الصندوق حال الاتفاق عليه لن يكون أكثر من مسكّن مؤقت ربما يتطور إلى مخدّر يعتاد عليه الاقتصاد ولا يستطيع الاستغناء عن الاقتراض لاحقاً، كما تشير العديد من تجارب الدول الأخرى، لا سيما في ظل الخلل الهيكلي المزمن الذي يعانيه الاقتصاد.

وأظهرت بيانات المعهد التونسي للإحصاء، تسجيل اقتصاد البلاد تراجعا قياسيا لمعدل النمو بنسبة 8.8% في العام الماضي، وأشار كذلك إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى 17.4%، كما تتوقع الحكومة تسجيل عجز في موازنة 2021 بمقدار 5.5 مليارات دولار، كما تجاوزت نسبة الدين الخارجي لتونس مائة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 30.3 مليار دولار، وهو ما يعني أن كل مواطن تونسي عليه دين يقدَّر بحوالي 3 آلاف دولار.

وزاد الأمر تعقيدا أنه بنهاية فبراير الماضي خفّضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، تصنيف الإصدار طويل الأجل للعملة الأجنبية والمحلية لتونس من B2 إلى B3، مع آفاق نمو سلبية، وقد بعث ذلك برسالة سلبية إلى الدائنين في الخارج، بأن تونس غير قادرة على الالتزام بتعهُّداتها المالية وتسديد ديونها، وباتت عاجزة عن خلق الثروة وتوفير مناخات استثمار آمنة.

فخاخ قرض صندوق النقد الدولي

من المؤكد أن الحكومة التونسية حزمت أمرها بشأن التوجه نحو الاقتراض من الصندوق، ولم يتبق للخبراء إلا التحذير من الآثار الكارثية الحتمية المتوقعة لبرنامج الصندوق، والتي ذاعت سمعتها الرديئة بين الجميع، فالموجة الأولى من إصلاحات الصندوق الهيكلية، ستعمل على تقليص عجز الموازنة من خلال الضغط على جانبيها، فمن ناحية ضغط النفقات، ستأمر برفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، وتثبيت الأجور، وإيقاف التعيين في الوظائف الحكومية، وعلى جانب الإيرادات ستعمل على رفع نسب الضرائب وابتكار ضرائب ورسوم حكومية جديدة.

كل ذلك بخلاف الأمر برفع سعر الفائدة المحلية لجذب الأموال الساخنة التي تسد عجز الموازنة، وتحفز الادخار المحلي، علاوة على المزيد من خفض قيمة العملة المحلية وربما تعويمها.

باختصار، إصلاحات الصندوق هي برنامج مفخخ لإفقار الشعب التونسي، وإذا لم توجد مواقف حكومية جادة وصلبة أثناء التفاوض، تتبنى سياسات وبرامج جاهزة وواضحة للتخفيف من هذا الإفقار، سيعني ذلك الاستسلام للنتائج الكارثية التي نراها في تجارب البلدان التي لجأت مسبقاً إلى الصندوق، والتي لم تتقلص أعداد فقرائها رغم سنوات التبعية الطويلة للصندوق.

ورغم نتائجه الكارثية على الشعب، فقرض الصندوق سيكون بداية لسلسلة من القروض ستطوق الدولة والمواطن يصعب الفكاك منها، وذلك سيتطلب وجود برامج وطنية مخلصة، أولاً للتخلص من الاحتقان السياسي الداخلي الذي بات معروفاً من هي القوى الداخلية والخارجية التي تغذيه، وثانيا بناء استراتيجية اقتصادية شفافة تعمل على علاج مكامن الخلل الهيكلي، والتحليق بالاقتصاد نحو التنوع والإنتاجية، وكل ذلك بعيداً عن المساس بحرية المواطن ومستوى معيشته.

المساهمون