بيع القطاع العام ... للشعب

بيع القطاع العام ... للشعب

26 يناير 2022
عاملان يتناولان الطعام داخل أنبوب خرساني في موقع بناء بالعاصمة الإدارية (فرانس برس)
+ الخط -

في زمنٍ تتعرض فيه الكثير من الحكومات لأزمات مالية، اختارت الحكومة المصرية الطريق السهل، فأعلنت قبل فترة نيتها بيع أكثر من عشرين شركة قطاع عام، وإن لم تنفذ حتى الآن إلا بيع شركة واحدة، وتأجلت الشركات الأخرى ربما بسبب ظروف الجائحة، أو لأسباب أخرى لم يتم الإعلان عنها، وما زالت أنباء البيع المزمع تسبب الأوجاع للكثيرين من أبناء الوطن.

وبخلاف بضع وعشرين شركة أعلنت الحكومة نيتها بيعها، سواء لسد عجز موازنة أو موازنات، أو لإيقاف الخسائر التي تحققها تلك الشركات كما تقول الحكومة، أو أملاً في اجتذاب بعض الدولارات من المستثمرين الأجانب، كانت حكايات الصندوق السيادي، الذي تحال إليه ملكية الأراضي والأصول المصرية، ليتم عرضها على المستثمرين الأجانب فيما يصفه المسؤولون المصريون بمشروعات "شراكة مع مستثمرين ومطورين"، وكأن ذلك لا يمثل بيعاً بأي صورة من الصور.

وبينما كانت وسائل الإعلام المصرية تبشرنا بأخبار عرض مجمع التحرير الواقع وسط القاهرة في واحدة من تلك العمليات، ثم فوز التحالف الأميركي الإماراتي بصفقة تطويره، كانت الصحافة الأميركية تتحدث عن تجربة رائدة لملكية الشركات، تخص شركة بابليكس صاحبة سلسلة محلات البقالة "السوبر ماركت" الشهيرة.

توظف بابليكس نحو 225 ألف موظف وعامل، يمتلك 205 آلاف منهم أسهماً فيها، ويتم منح الموظفين كل عام نسبة من أرباح الشركة في صورة أسهم

تحقق الشركة الأميركية التي أنشأت قبل أكثر من تسعين عاماً، وتمتلك 1300 محلاً في الأراضي الأميركية وتستحوذ ولاية فلوريدا وحدها على 800 منها، هوامش ربحية تفوق ما يحققه عملاقان من هذه النوعية من المحلات وهما كروغر وألبرتسونز، ولديها ميزانية قوية تكاد تخلو من الديون، وتدعمها نقدية تقدر بنحو ملياري دولار، واستثمارات تتجاوز قيمتها 13 مليار دولار.

ويرجع المحللون أسباب قوة الشركة إلى هيكل ملكيتها الفريد، إذ تستحوذ عائلة جنكينز التي أسستها على ما يقرب من 20% من قيمتها الإجمالية التي تقدر حالياً بنحو 45 مليار دولار، بينما يمتلك الجزء المتبقي موظفو الشركة وأعضاء مجلس إدارتها، ولا يتم التعامل على أسهما في البورصة الأميركية أو في أي بورصة أخرى.

واعتبر اقتصاديون هذا النوع من الملكية يمثل أحد أبرز أنواع الرأسمالية التقدمية في عصرنا الحالي، حيث يكون العمال، لا المستثمرون، هم الفائزون.

توظف الشركة ما يقرب من 225 ألف موظف وعامل، يمتلك 205 آلاف منهم أسهماً فيها، ويتم منح الموظفين كل عام نسبة من أرباح الشركة في صورة أسهم، كما يمكنهم شراء أسهم إضافية إن أرادوا.

وسمح هذا النظام لإدارة الشركة بدفع رواتب للموظفين تقل عما يحصل عليه موظفو الشركات المنافسة، إلا أن تملك الموظفين للأسهم يعوض هذا النقص، وفي أغلب الأحيان يتسبب في حصولهم على دخل أعلى من موظفي الشركات الأخرى.

وتسيطر بابليكس على سوق محلات البقالة الكبيرة في ولاية فلوريدا الغنية ولا ينافسها هناك أحد، ولم تطور خدمات التوصيل لديها كما فعلت أغلب الشركات خلال عامي الجائحة، كونها تمتلك محلات كبيرة رائعة تجعل من زيارتها متعة حقيقية لكل أفراد الأسرة.

الرئيس التنفيذي للشركة حالياً هو تود جونز الذي بدأ عمله فيها من أول السلم موظفاً صغيراً، ليمضي فيها أكثر من أربعة عقود، ثم ليكون أول رئيس تنفيذي لها من خارج عائلة جنكينز المؤسسة.

رغم أن إيرادات الشركة في 2021 قدرت بنحو 3.5 مليارات دولار، يقل راتب رئيسها عما تحصله بعض بطلات تطبيق تيكتوك في الولايات المتحدة في العام

وبسبب قضاء كل حياته العملية في الشركة، وتملكه أسهماً فيها، يحصل جونز على راتب سنوي منخفض مقارنة بنظرائه لدى الشركات الأخرى، لم يتجاوز 3.6 ملايين دولار في عام 2020.

ورغم أن إيرادات الشركة في عام 2021 قدرت بنحو 3.5 مليارات دولار، يقل راتب جونز عما تحصله بعض بطلات تطبيق تيكتوك في الولايات المتحدة في العام.

وتمثل الشركة العريقة نموذجاً وطنياً جميلاً لدى الأميركيين، إذ أسسها الشاب جورج جنكينز عندما كان عمره 23 سنة.

رهن جنكينز بستان برتقال تمتلكه عائلته في فلوريدا ليفتح متجر أحلامه الذي كان يحتوي على وسائل الراحة مثل تكييف الهواء في الولاية الحارة أغلب فترات العام، والأبواب الأوتوماتيكية، وعلب الاحتفاظ بالأطعمة المجمدة، والأرضيات سابقة التجهيز، وكلها كانت نادرة في ذلك الزمان. ووضع جنكينز أجهزة لقياس الوزن أمام متجره، كعنصر جذب للمستهلكين في وقت لم تتوفر فيه هذه الأجهزة في الكثير من البيوت.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

أعجبتني متاجر بابليكس حين زرتها للمرة الأولى، وأبهرني تنوع المنتجات فيها وعبقرية أسلوب العرض، في صناعة شديدة التنافس، يقوم أسلوب التسويق الأساسي فيها على منح الخصومات وضغط هوامش الربحية، إلا أن ذلك لم يقلل ربحية الشركة، واستمرت في تحقيق هوامش ربحيتها المرتفعة، بل وزيادتها بمرور الوقت.

تذكرت الشركات التي ترغب الحكومة المصرية في بيعها عند قراءتي عن بابليكس وهيكل الملكية فيها، وسرحت بأفكاري فتخيلت الحكومة المصرية تعلن عن بيع شركاتها التي ترغب في التخلص منها للعاملين فيها وللمستثمرين المصريين، وتفتح باب المساهمة في مشروع تطوير مجمع التحرير أمام المواطنين، مع المشاركة في الأرباح، وتسمح لمجموعة من رجال الأعمال المصريين بمشاركة العاملين في تملك مجمع الحديد والصلب قبل البدء الفعلي في تصفيته وبيع الأصول المملوكة له.

نعم يستطيع المصريون شراء الشركات التي ترغب الحكومة في بيعها لمستثمر أجنبي، ويمكن للعاملين تملك نصيب من الشركات التي يعملون بها

تتعامل الولايات المتحدة وأوروبا والدول المتقدمة مع تملك العاملين حصة في الشركات التي يعملون فيها على أنه أحد أفضل الوسائل لتقليل التفاوت في الدخول، ورفع مستوى معيشة العمال، وزيادة حرصهم على إنجاح الشركات التي يعملون فيها.

وفي عام 2018، وظفت الشركات المملوكة للعاملين فيها 17 مليون عامل أميركي، أو ما يقرب من 12% من القوى العاملة في أميركا.

نعم يستطيع المصريون شراء الشركات المصرية التي ترغب الحكومة في بيعها لمستثمر أجنبي، ويمكن للعاملين تملك نصيب من الشركات التي يعملون بها، ويمكنهم بعد ذلك اختيار مجلس الإدارة الذي يمثلهم، فتكون مصلحة صاحب العمل والعامل واحدة، ويستفيد العامل من نجاح العمل.

أليس هذا أفضل من انتظار المستثمر الخليجي، مع تقديم التنازل بعد الآخر، أملاً في الحصول على العملة الأجنبية، بينما تزداد الأغلال الموضوعة في معاصمنا ومعاصم الأجيال القادمة صلابة.

المساهمون