محمد الأسعد.. في نزع الاستشراق عن علم الآثار

محمد الأسعد.. في نزع الاستشراق عن علم الآثار

03 فبراير 2021
ختم ينتمي إلى حضارة أوغاريت، التي لا يمكن قراءة أبجديتها بمعزل عن اللغة العربية بحسب الكات
+ الخط -

على مدار عقود عدّة، اشتغل الناقد والشاعر الفلسطيني محمد الأسعد في البحث والترجمة من أجل تحرير تاريخ فلسطين، والمنطقة العربية عموماً، وآثارها، من الخرافات التوراتية التي سعى المستشرقون وعلماء الأركيولوجيا الغربيون إلى تثبيتها عبر جملة مغالطات معرفية استندوا إليها من أجل تبرير المشروع الاستيطاني الصهيوني واختلاق جذور له في المكان.

طبعةٌ ثانية، مزيدة ومنقحة، من كتابه "مستشرقون في علم الآثار: كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ"، تصدر هذه الأيام عن "دار "خطوط وظلال للنشر والتوزيع" في عمّان، وتكتسب أهميتها من إحاطتها بمسار تاريخي للدراسات والتنظيرات التي أتت في هذا السياق، وإضاءة أحدث ما نُشر منها ضمن رؤية نقدية متماسكة قادرة على تفنيد هِناتها وعثراتها التي لا تنتهي.

وهنا، يشير المؤلّف إلى أن "الغلبة ما زالت لعالم الآثار والباحث والصحافي والفضولي الغربي. ونصيبُ العربي، عالماً كان أو باحثاً أو صحافياً أو ذا فضول معرفي، موسمياً كان أو دائم الحضور، هو اللجوء إلى المتداول في اللغات الغربية، وأكثره شيوعاً، ولا يصل حتى إلى الدراسات المتخصصة القريبة العهد، بل يظل سجين مغالطاتٍ وإشاعاتٍ أثبتها التكرارُ، وسيّجتها حساسياتٌ إقليمية وأفكارٌ مسبقة تبتعد به عن أن يكون صاحبَ فتح جديد، أو ذا قدرةٍ أو جرأةٍ على تبنّي فتوح جديدة".

ينتقد لجوء باحثين عرب لأدوات تعكس استبطانهم عنصرية الغرب

يقف الأسعد عند مسألة بالغة الأهمية تتّصل بالباحث العربي الذي "لا يزال أسيرَ مفاهيم القرن التاسع عشر حول هوية وطنه الحضارية"، كما أنه يستعير أدوات تفسير تعكس استبطانه للعنصرية الغربية التي كشف العديد من الباحثين الغربين سفاهتها، دون أن يكلّف هذا الباحث العربي نفسه عناء الاطلاع على أحد الاكتشافات الأثرية العربية أو يعيد النظر في نصوص حضاراته القديمة. ويوضح الأسعد أنّ "عالِماً أو اثنين من العلماء العرب الأفذاذ؛ طه باقر وكمال الصليبي"، نصحاه بأن يباشر هذه المهمة بنفسه ولا يتركها "أرضاً مشاعاً لصغار المستشرقين، وضباط المخابرات من كل جنس ولون".

مغامرة غنية وشيّقة في آن، يخوضها هذا الكتاب الذي يراكم جملة دراسات بدأ بنشرها المؤلِّف منذ عام 1991، والتي تنفي عبر شواهد وأدلّة دامغة وجود "حضارة إسرائيلية" على أرض فلسطين طوال ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد - وهو ما كرّسته نظرة لاهوتية إلى التاريخ وكذلك السعي نحو تبرير استعمار الأرض العربية في العصور الحديثة.

يقدّم الأسعد في الفصل الأول، "كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ"، عدّة مقالات، إحداها حول عالم الآثار الأميركي ألبرت غلوك (1925- 1992)، الذي أتى إلى فلسطين بوصفه أحد المؤمنين بعلم الآثار التوراتي ثم تحوّل إلى باحث يطلب الحقيقة، والتي بسببها تمّ اغتياله، كما تُظهر سطورٌ اقتبسها الأسعد من مقال كتبه غلوك سنة 1990. ويوضح الأسعد أن أربع قوى عملت على صياغة طبعة قصة فلسطين المهيمنة اليوم، وهي: الموروث التوراتي كما فسرته الأمم الغربية المسيحية، والتنافس الأوروبي على بسط السيطرة على ساحل شرق المتوسط بعامة وعلى فلسطين بخاصة، وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين، سكان البلد الأصليين، بشكل مدروس، واختفاء الميراث الفلسطيني والأدلة الملموسة بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمّدة للمصادر الثقافية العربية (مثل مكتبة توفيق كنعان عام 1948، ومتحف الآثار الفلسطيني ومكتبته عام 1967، ومكتبة مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت).

الصورة
غلاف الكتاب

في الفصل الرابع، "الجغرافيا السياسية للثقافة العربية"، ينتقد المؤلّف تلك التسميات المغلوطة التي رسّخها الاستشراق في علم الآثار الذي يحاول إلغاء أيّة جوامع ومشتركات تجمع الحضارات التي قامت في منطقتنا، والتي تنزع "العربية" عن شعوبها. ويكتب: "بعْثُ هذه التسميات القديمة المضللة منذ بداية استخدامها في العصور الحديثة استهدفَ خلقَ هويات مصطنعة لبعض البلدان العربية، وكان سلاحاً في الصراع الفكري الذي ما يزال دائراً حول محور واحد؛ محور دفع العربي إلى التنكّر لنفسه ولأسمائه وتفتيت وطنه إلى هويّاتٍ لا أساس لها إلا في كتب الباحثين الغربيين".

ويتناول الأسعد في الفصل السابع، "القدس في المخيلة الاستعمارية"، حضور خطاب الاستشراق الغربي في تعامله مع حاضر وماضي فلسطين، والوطن العربي عموماً، والذي يغذّي خيال عامة الناس والباحثين والأدباء والرسامين والرحالة والمغامرين العسكريين القادمين من الغرب إلى عالمنا العربي، من خلال تحليل نماذج من أعمالهم. ومن هذه الأعمال صورة القدس في إحدى قصائد الشاعر الإنكليزي وليم بليك، وكذلك عشرات الرسومات للفنان الهولندي رمبرانت التي تعكس ميله إلى تفسير قصص التوراة بتعابير سياسية ودينية معاصرة، وصولاً إلى مشروع كريستوف كولومبس الذي كان يطمح إلى عقد اتصال بين المسيحية الغربية والمغول في الشرق من أجل توحيد الكفاح لـ"استعادة" أورشليم من حكم المسلمين.

موقف
التحديثات الحية

المساهمون