فلسطين ليست ذكرى فقط

فلسطين ليست ذكرى فقط

16 مايو 2020
من قرية"أُم الزينات"-مسقط رأس الكاتب بقضاء حيفا المحتلة(العربي الجديد)
+ الخط -

أين تَمْثُلُ فلسطين حقاً؟
سؤالٌ يتبادرُ إلى الذهن فورَ أن تتكاثر كلماتٌ مثل "الذكرى" و"النكبة" و"اللاجئين"، وأفعالٌ مثل "تذكّروا" و"استعادوا" "وقصّوا"، وفور أن نصادف حشراً محموماً لدى باحثين من جنسيات مختلفة، بما في ذلك بعض الفلسطينّيين، لفلسطين في إطار نزاع بين روايتين عن الماضي؛ الرواية الفلسطينية من جانب والرواية الصهيونية من جانب آخر، بما يعنيه كلُّ هذا من تحويل لفلسطين والشعب الفلسطيني إلى مجرّد ذكرى متخيّلة، والانتقال بهذه الذكرى إلى الواقع الحق ومحو ملامحه وإحلال الذكرى محلّه، أي محو طرفي الزمن، الحاضر والمستقبل، وبالتالي تحويل الفلسطينيّين إلى شعب غير مرئي في الحاضر.

فلسطين ماثلة في الماضي حقاً، كأرضِ شَرّدَ تحالفٌ غربي شعبها وأقام عليها مستعمرة تُدعى "إسرائيل" في عام 1948، إلّا أنها ما تزال تَمْثلُ منذ ذلك الزمن يوماً بعد يوم وسنة بعد أخرى وصولاً إلى الحاضر الراهن، ليس في الذاكرة فقط، بل وفي ملح يوم الفلسطينيّين وخبزهم، في استعمار المزيد من أرضهم، وهدم المزيد من بيوتهم، وقتل المزيد من أطفالهم، وتدمير مخيّماتهم، والإمعان في تشريدهم. إنها حاضر أيضاً وصراع قائم في كل لحظة، ومن ينظر إليها على أنها نزاع بين روايتين يجري التوفيق بين طرفيها، ومن يتصرّف على هذا الأساس، أياً كانت جنسيته، إنما يساهم في تحويل الفلسطينيين إلى أناس غير مرئيّين، على حد تعبير روزمري صايغ.

إن ما يجري على وجه الحقيقة لا الخيال، صراع متواصل على كلا الصعيدين؛ الماضي والحاضر. فإلى جانب ما أشرنا إليه من استعمار أرض وتشريد وتدمير وقتل على مدار الساعة وليس على مدار اليوم والشهر والسنة فقط، هناك في الوقت نفسه محاولة استعمار الذاكرة، وهنا يدور صراع لا يقل شراسة عن الصراع في الحاضر، ليس بالعودة إلى الماضي ومحاولة تغيير مساره كما يحدث في أفلام الخيال العلمي، بل بالهجوم على أخطر أنماط الذاكرة؛ نمط الذاكرة الشعبية، وفي الآن واللحظة المعاشة، وبكل الوسائل الإعلامية، بكل اللغات بما فيها اللغة العربية.

من المعروف أن ذاكرة الشعب الجماعية توصف بشكل عام على أنها تمثيلات للماضي تتجمّع على شكل روايات. وتُصنَّف هذه الذاكرة إلى خمسة أنماط لدى بعضهم أو أكثر لدى بعض آخر، يقف على رأسها نمط الذاكرة الشعبية، وهو نمط يؤثّر تأثيراً مهمّاً على ردود أفعال الناس النفسية، بما في ذلك مشاعرهم وما يؤمنون به وقوالبهم الذهنية، وبالتالي على سلوكهم. بالإضافة إلى هذا هناك الذاكرة الرسمية وتجلّياتها في المتاحف والكتب المدرسية ومنشورات الجيش وما إلى ذلك، وهناك أنماط أُخرى، مثل ذاكرة السير الذاتية التي هي أحد المصادر المهمّة في معرفة الماضي، والذاكرة التاريخية التي يُعنى بها الأكاديميّون وبحّاثة مستقلّون، وهناك الذاكرة الثقافية التي تمثّلها طريقة أي مجتمع في تمثيل ماضيه بوسائط متنوّعة، تبدأ بالمقالات الصحافية والكتب والصروح التذكارية ولا تنتهي بالأفلام والأساليب المعمارية والمهرجانات.

والملحوظ في هذا الصراع أن المستعمر الصهيوني ومن يتعاون معه من "عرب" (أهم عربٌ حقاً؟)، يركّز على محاولة استعمار المخيّلة والوعي الشعبي، ليس في نظرتهما إلى ما يحدث في الحاضر فقط، بل وكما يتخيلان ويعيان ما حدث في الماضي. بالطبع من دون أن يهمل أنماط الذاكرة الأخرى إهمالا تاماً، تلك التي اخترق بعضها، مثل الذاكرة الرسمية، فأمِنَ جانبها بل وجنّدها في خدمته، والذاكرة الأكاديمية التي تظلّ بعيدة عن التأثير تأثيراً فعّالاً في الذاكرة الشعبية، وذاكرة السيرة الذاتية الأقل تأثيراً بفعل تخلّف أدب السيرة الذاتية الفلسطينية والعربية بشكل عام، والذاكرة الثقافية المؤثّرة بالطبع، ولكن ستفقد تأثيرها في حال استعمار الذاكرة الشعبية، وستتحوّل صروحها وكتبها ومهرجاناتها إلى مادة للتندّر.

صحيح أن فلسطين ماثلة كواقع حي ليس كذاكرة فقط، جيلاً بعد جيل، ولهذا تبعات مهمة، ولكن استعمار الذاكرة بالتزامن مع استعمار الحاضر الراهن، يحقّق أشهر مقولة رسّختها في الأدب المعاصر رواية جورج أورويل المعنونة "عام 1984"؛ أعني قوله "من يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي، ومن يسيطر على الماضي يسيطر في المستقبل".

إن حدّة هذا الصراع المتزامن على صعيد الحاضر والماضي بين قوى الحرية العربية وبين قوى الاستعمار الغربي ممثلة بقاعدتها "إسرائيل" هي الدال الحاسم على أنّ فلسطين ماثلة وممسكة بأطراف الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل. ويبقى أن محصّلة هذا الصراع الإيجابية لا تحققها إلّا قدرة قوى الحرية العربية، والفلسطينية منها بخاصة، على وعي هذا الصراع المتزامن على الصعيدين وخوضه هنا وهناك، وعدم الغرق في صورة فلسطين الماثلة في الذكرى فقط، أي تحويلها على صعيد السياسة والفكر إلى نزاع بين روايتين، وعلى صعيد الواقع إلى صورة شعب حاضر ولكنه غير مرئي، أي لا فاعلية له ولا تأثير.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

المساهمون