ما تقوله الجغرافيا السياسية

ما تقوله الجغرافيا السياسية

11 يونيو 2022
تجهيز للفنّانة الهندية شيلبا غوبتا في "غاليري كورف" بلندن، 2021 (Getty)
+ الخط -

في كتابه "سجناءُ الجغرافيا"، يُشير الكاتب الصحافي البريطاني تيم مارشال (1959) إلى أهمّية الجغرافيا - ويقصد جغرافيا الدول الحديثة - في السياسة، ويفعل ذلك من خلال عشر خرائط لدول ومناطق مختلفة من العالم.

يبدأ الكاتبُ عمله الصادر عام 2015 كأنّه يستشرف ما حلّ بأوكرانيا على يد روسيا، فهو يقول ما مفاده أنّ الأخيرةَ لطالما سعت إلى عمق استراتيجي يتمثّل في بحر ومياه دافئة. وهنا يتطرّق إلى أوكرانيا بوصفها دولة تُشكّل عائقاً أمام طموح روسيا بالتمدّد والحفاظ على مسافة بينها وبين القارّة الأوروبية، وهذا يتعلّق بهوسها في ما يتعلّق بالدفاع عن نفسها في حالة حرب. فعلى الرغم من كونها الدولةَ الكبرى مساحةً في العالم، إلّا أنّ جغرافيا روسيا محدودةٌ من ناحية قدرتها على الدفاع عن نفسها في حالة نشوب حرب واسعة وشاملة؛ فهي أرضٌ مترامية الأطراف، ومسطّحة، وتكثر فيها المستنقعات.

لا يُبرّر الكاتبُ حربَ روسيا على أوكرانيا، لكنه يستشرفها بدقّة بالغة، بناءً على القلق الروسي الدفين من الغرب المتمثّل في "حلف الناتو"، ودخول أوكرانيا تحت تأثير هذا الحلف، والفلك الأميركي الغربي بشكل خاص. وأوكرانيا، بالنسبة إلى التفكير السياسي الروسي، تُعتبر أرضاً استراتيجية من ناحية ثراها بالمعادن وجغرافيتها الاستراتيجية، لإطلالتها على البحر الأسود وبحر آزوف.

وعندما يتحوّل الكتاب لمناقشة الصين وحدودها مع الهند، والهند وحدودها مع باكستان، وكذلك اليابان وحدودها مع كوريا الشمالية، واقتراب الكوريّتَين من الصين واليابان، وأطماع الصين المعروفة في جزيرة تايوان، فالخلاصة هي أنّ هذه بؤَرٌ لا يُستبعَد أن تنشب فيها حروبٌ ونزاعات، وتلك تتعلّق بتوسُّع الصين ومدّها العالمي المتزايد وحاجتها إلى قوّة بحرية كبيرة، خصوصاً أنّ أغلب هذه الدول مناطق نفوذ للولايات المتّحدة الأميركية.

تجلّيات جغرافيا غير مستقرّة وبلا أُسس سياسية منطقية

يُشير الكاتب إلى أنّ التطوّرات التكنولوجية من ناحية الأسلحة وغيرها، سواء جوّاً أو بحراً أو برّاً، لها تأثيراتها في تغيير كيف ينظر الناس إلى الجغرافيا، وكأنّ الإنسان تغلَّبَ عليها وعلى الطبيعة بشكل عام. إلّا أنّ مارشال يميل إلى أنّ للجغرافيا دوراً كبيراً في السياسة العالمية، وذلك لن يتغيّر، لأنّ الطبيعة تبقى أقوى وأعمق من الإنسان بتأثيراتها اللامحدودة.

ومِن جملة ما يُشير إليه بلدانُ الشرق الأوسط وأفريقيا؛ حيث يَعتبر أنّ حدود هذه البلدان غير طبيعية من ناحية أنّه جرى تقسيمُها بشكل عشوائي من قِبل الاستعمار، وترسّخت هذه التقسيمات على يد جماعات النخبة الحاكمة فيها. ويستطرد بالقول إنّه لن تقوم قائمة لهذه البلدان لافتقارها، بشكل عام، لأعماق جغرافيةٍ تجعلها قادرةً على الاعتماد على النفس والدفاع والوقوف على قدميها بشكل مستقلّ، فهي تمتلك الكثير من المساحات أحياناً، لكنّ جغرافياتها غير عملية، بسبب انعدام التواصل السلس بين المناطق المختلفة التي تتكوّن منها، وغياب المجهودات السياسية للتغلّب على الاختلالات الجغرافية.

أمّا بالنسبة إلى الولايات المتّحدة وبريطانيا، فيبدو الكاتبُ منحازاً؛ حيث يرى أنّ جغرافيتهما هِبة كونيّة، تُحصّنهما من كثير من الأخطار، وتُمكنّهما من الدفاع عن النفس والاحتفاظ بعُمق جغرافي فريد. الجغرافيا، هنا، تتعلّق بطبيعة الأرض، والدول المجاورة، حيث تُجاور الولايات المتّحدة دُول أميركا اللاتينية وكندا، وتلك لا يمكن أن تشكّل تهديداً لها. أمّا روسيا، التي تحدُّها من جهة ولاية ألاسكا، فهي لا تمتلك القوّة الكافية لمضاهاتها عسكرياً، وإنْ بقيت مصدر قلق لها.

تبدو نظرة الكاتب، هنا، وكأنّها متأثرّة بخلفيته الأنغلوسكسونية. لكن، إذا ما تركنا ذلك جانباً، فإنَّ الجغرافيا تُظهر، بشكل جليّ، أثراً كبيراً في السياسة وفي العلاقات بين الدول. الجبال التي تفصل بين الهند والصين تجعل الدولتَين تفكّران كثيراً في تجنُّب الحروب بينهما، لأنّها ستكون حروباً صعبة، وستُنهِك الطرفين، خصوصاً من جانب خطوط الإمداد التي تحتاج إليها الجيوش لكي تفرض وقائع جديدة على الأرض وتستمرّ بفرضها.

وبالعودة إلى الدول العربية، يبدو الأمر مأساوياً إذا ما نظرنا إليها من زاوية الجغرافيا السياسية؛ فهي دول "بلا معنى" إذا تُرجم الأمر إلى عوامل قوّة في موازين القوى العالمية التي تحتاج إلى تأمينات جغرافية، تشمل الموارد الاقتصادية الضخمة، وأيضاً التضاريس؛ مثل الجبال الشاهقة الصخرية التي قد تُمكّنها من الدفاع عن نفسها، أو الصحاري مترامية الأطراف. أمّا تقليص وتقزيم الجغرافيا في أُطر سياسات ضيّقة داخل دول مرتهنة للغرب، أو بشكل متزايد للصين أو لروسيا، فتلك سياسة ضعيفة، وتبقى دائماً مضطربة وقلقة على نفسها ومستقبلها، لأنّه لا يوجد مستقبل واعد لأقزام سياسية متناحرة في أغلب الأحيان، تتصارع مع بعضها البعض على قطع جغرافية صغيرة ومحدودة، وأطماع الدول الكبرى فيها تبقى كبيرة.

إذن، التقارُب العربي، وخصوصاً في ما يتعلّق على الأقل بالتقليل من حدّة مشاكل الحدود التي أوجَدها وكرّسها الاستعمار، ليس فقط ضرورة ثقافية أو عاطفية؛ إنّه ضرورة وجودية تتعلّق بقدرة هذه الدول على دخول عالَم المستقبَل بعوامل قوّة داخلية متينة، وعلى رأسها جغرافيا سياسية متواصلة وسلسة.

تملك الدول العربية إمكانات ضخمة لو اجتمعت في إطار سياسي موحَّد، وإن بقي متعدّداً ثقافياً، تتقاسمُ فيه ثراها الجغرافي ومواردها الهائلة. أمّا لوحدها، كدويلات، فهي كمَن يرقصُ في العتمة، وما حلّ بكثير منها، سواء سورية أو ليبيا أو اليمن، هي تجلّياتٌ لجغرافيا غير مستقرّة وبلا أُسس سياسية منطقية.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون