غولسوم بولات: عودةٌ إلى سنوات تركية عربية حرجة

غولسوم بولات: عودةٌ إلى سنوات تركية عربية حرجة

16 مارس 2021
غولسوم بولات
+ الخط -

تكمن أهمية كتاب الباحثة والمؤرّخة التركية، غولسوم بولات، الذي صدر حديثاً عن "دار كرونيك" بعنوان "العلاقات التركية العربية: تحوُّلُ الإيالات القديمة إلى جيران جُدد (1914 - 1923)"، ليس فقط في كونه محاولةً لكسر الصورة النمطية عن "العرب الذين طعنوا الدولة العثمانية من الخلف" ــ وهي الفكرة التي جرى تداوُلها في العديد من الدراسات التاريخية التركية حول تلك المرحلة، وتكريسُها في ذاكرة الأجيال التركية عبر عقود ــ بل أيضاً في كونه لا يتبنّى الرؤية الإسلامية التركية. ورغم أنّ هذه الأخيرة تبقى على النقيض من الرؤية السابقة، إلا أنّها تظلّ رؤيةً أيديولوجية محضة، حيث يجري تناوُل مسألة العلاقة مع العرب وفقاً لفكرة "الأمّة المسلمة".

وتؤكّد بولات، التي تدرّس التاريخ الحديث في "جامعة أنقرة"، على هذه الفكرة منذ البداية. تقول في حديثٍ إلى "العربي الجديد" إنَّ "الكتاب يأتي في سياق التقييم المعتمِد على الوثائق الأرشيفية، بعيداً عن خطاب الصداقة أو العداء"، موضّحةً أنّها عادت إلى "السنوات الحرجة في علاقة العرب بالأتراك على مدار تسع سنوات، مستندةً إلى الوثائق التي ظهرت وتظهر حتى الآن من حين إلى آخر لإعادة النظر في تلك المرحلة وفق هذه التحديثات. وتشمل تلك المرحلة سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها، حيث استمرت مقاومة الأتراك رغم انتهاء الحرب، كما أنّ هزّات ما بعد الحرب لم تكن قد انتهت في شبه الجزيرة العربية وسورية والعراق.

تعود الباحثة إلى هذه الفكرة من وقت إلى آخر، للتأكيد على أنَّ موقف العرب لم يكُن واحداً في تلك المرحلة، بطبيعة الحال، من خلال تناول التحالُفات عشية الحرب في الأقسام الثلاثة لشبه الجزيرة العربية؛ الحجاز ونجد واليمن. وقد قسّمت بولات دراستها إلى قسمين: "الصراع، والاتفاقيات السياسية"، و"التمرُّد والتعاون والنضال: سورية والعراق وشبه الجزيرة العربية". وتتعرّض في مقدّمة الدراسة إلى نشوء فكرة القومية العربية وصعودها خلال الحرب العربية الثانية، وصولاً إلى ما يُعرف بـ"الثورة العربية الكبرى" عام 1916. كما تسلّط الضوء على مواقف قادة العرب المتمرّدين على الدولة العثمانية من ناحية، والصراعات الداخلية بينهم من ناحيةٍ أخرى، إلى جانب أبرز التطوّرات التي عاشها العثمانيون بعد الحرب والاتفاقيات الناتجة منها.

تتجاوز الصورة النمطية عن العرب في الدراسات التركية

كما ترى بولات أنّ الأمور لم تكُن مستقرّة بالأساس في شبه الجزيرة، حيث تتناول العلاقات المتوتّرة بين آل سعود وآل رشيد، وتأثير الاتفاق بينهما على علاقة العرب بالعثمانيين، مروراً بتمرُّد الشريف حسين واتفاقه مع الإنكليز، وتغيُّر موقفهم من العرب المتمرّدين، وانتهاءً بفكرة المملكة العربية الكبرى. وفي هذا السياق، تؤكد الباحثة رؤيتها حول تبايُن مواقف القادة العرب من العثمانيين، حيث ترى أنه كانت هناك نوايا للتمرُّد عند الضبّاط العرب في سورية قبل أن يعلن الشريف حسين عصيانه، إلّا أنّ موقف ضبّاط العراق كان مختلفاً، حيث رأوا أهمية الانتصار على الإنكليز أولاً، ثم مفاوضة العثمانيّين بعد ذلك ومطالبتهم بالاستقلال.

وفي هذا السياق أيضاً، تُفرِّق الباحثة بين موقف قادة العرب في شمال اليمن وجنوبه؛ ففي الشمال كانت التمرُّدات ضد العثمانيّين لا تتوقّف، وتُؤكّد العديد من الوثائق على اتفاق الأدارسة في شمال اليمن مع الإنكليز الذين قدّموا لهم الأسلحة لمواجهة العثمانيّين بعد أن عقدوا معهم معاهدة صداقة عام 1915. وعلى العكس من ذلك، كان الإمام يحيى المتوكّل، في الجنوب، يدعم العثمانيّين سرّاً، وقد استمر في التواصُل معهم خلال حرب الاستقلال.

تتناول بولات، في القسم الثاني من الدراسة، أبرز الانعكاسات العسكرية والتاريخية والاجتماعية في سياق التكوينات السياسية التي ظهرت أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى في شبه الجزيرة العربية وسورية والعراق، والتوتُّرات التي شهدتها هذه البلاد بعد انتهاء الحرب، وسياسة تركيا الخارجية مع العرب أثناء حرب الاستقلال. وتؤكّد في هذا السياق على اتفاق الأتراك مع بعض العشائر العربية ضد الإنكليز والفرنسيّين آنذاك.

الصورة
غلاف غولسوم بولات

ومن أبرز النقاط المهمة التي تناولتها الباحثة في دراستها (وهي نقاط ربما لا تُذكر في الدراسات التاريخية العربية حول تلك المرحلة)، الدورُ الذي لعبه الأمير صباح الدين في التمرُّد على العثمانيّين، وهو ابن السلطانة سنيحة، أخت السلطان عبد الحميد، والمعروف بمعارضته الشديدة له وعمله مع جمعية "الاتحاد والترقّي" ثم انقلابه عليها وتأسيسه "فرقةَ الأحرار" التي نافست الاتحاديّين في المنفى. وتُؤكّد الباحثة على علاقة الأمير بالإنكليز، ووعْدِه العرب المتمرّدين، عبر الإنكليز، في مراسلاته مع العقيد سير مارك سايكس، بأن يدعمهم إذا سقطت الدولة العثمانية ووصل حزبُه إلى السلطة، وأنَّ الخلافة سوف تكون عربيةً مرّة أُخرى، ولأحد القريشيّين تحديداً. وهي مسألة جرى نقاشُها من قبل واستخدامُها في معارضة السلطان عبد الحميد.

كما خصّصَت بولات قسماً من دراستها للمراجع التي عادت إليها في أرشيف هيئة الأركان العسكرية التركية، والمذكّرات والوثائق المتوفّرة بالتركية والإنكليزية. وفي هذا السياق، تَذكر أنَّ أغلب الوثائق المتعلّقة بالشريف حسين تتوفّر باللغة الإنكليزية. وتُعلّق على ذلك بأنّ "رسائل الشريف حسين كانت كلّها بالعربية، وتُرجمت إلى الإنكليزية في المفوضية البريطانية العليا بالقاهرة". ورغم اعترافها بأهمية هذه الوثائق، إلّا أنّها تأخذ على كثير من الباحثين العرب، في حديثها إلى "العربي الجديد"، أنّهم "يعتمدون على الوثائق الإنكليزية وحدها في هذا السياق، من دون الرجوع إلى الأرشيف العثماني، رغم اهتمامه بمسألة تحوُّل المقاطعات القديمة إلى جيرانٍ جدُد، ضمن العلاقات التركية العربية. كما أنَّ الأرشيف العسكري يحظى أيضاً بالعديد من الوثائق المهمّة حول تلك السنوات".

تأخذ على الباحثين العرب اقتصارهم على الوثائق الإنكليزية

وبحكم إنجاز المؤرّخة غولسوم بولات لأكثر من دراسة حول العلاقات العربية التركية ("مصر في سنوات الحرب العالمية الأولى: من منظور الدولة العثمانية وبريطانيا" ــ 2015)، فهي ترى أنّه من الصعب التعبير عن العلاقات التركية العربية في جملة واحدة، وأنّ هناك العديد من الملفّات التي يجب فتحها حول تاريخ تلك العلاقات، وفق الوثائق التي تكشف طبيعة تلك السنوات الحرجة.

وتلفت بولات النظر أخيراً، في حديثها إلى "العربي الجديد"، إلى أنّه "من الممكن العثور على مذكّرات مهمّة أو رسائل أو اتفاقيات سرية لم تُكشَف بعد، ومن الممكن أن تُبيِّن لنا الكثير حول سنوات الحرب العالمية الأولى من منظور العلاقات التركية العربية"، مرجّحةً أن تكون هذه الوثائق في أيادي العائلات العربية والتركية القديمة.

المساهمون