شمس الدين سامي: 150 سنة على أول رواية تركية

13 يونيو 2021
نصب تذكاري للإخوة فراشري، نعيم وعبدل وسامي، في تيرانا بألبانيا (Getty)
+ الخط -

يبدو أن الاستعدادات للاحتفال بذكرى مرور 150 سنة على صدور أول رواية في التركية، ألا وهي رواية "حب طلعت وفتنة" (1872) لـ شمس الدين سامي فراشري (1850 - 1904)، بدأت مبكرة، فجريدة "دايلي صباح"، على سبيل المثال، نشرت في ملحقها الثقافي مقالة لخاقان أرسلان بنزر بعنوان "شمس الدين سامي: الروائي التركي الأول" (14 أيلول/ سبتمبر 2019). في غضون ذلك تتوالى الدراسات عن المؤلف التي تُبيّن الجوانب الأُُخرى من مؤلفاته الكثيرة في مختلف الحقول المعرفية منذ الاحتفال بمئوية رحيله في 2004، وهو الذي يرتبط أكثر عند المثقفين العرب المجايلين له بكونه صاحب القاموس الموسوعي "الأعلام" الذي صدر في ستة مجلدات، وهو الذي ألهم خير الدين الزركلى (1893 - 1976) لوضع عمله المعروف "الأعلام".

يمثّل شمس الدين سامي حالة فريدة نظراً للخلفية الثقافية والسياسية التي جاء بها من بلاده (ألبانيا) إلى إسطنبول وإسهامه في تحديث اللغة هنا وهناك (وتمرير الأفكار الجديدة من خلال الروايات والمسرحيات)، والتي كانت النواة للقومية الثقافية ثم للقومية السياسية الألبانية والتركية.

من ناحية أُُخرى، يمكن القول إن شمس الدين سامي يمثّل الحصيلة الثقافية الجديدة لعصر الإصلاحات أو "التنظيمات"، التي بدأت بمرسوم 1839 الذي هدف إلى تحديث الدولة العثمانية باستلهام التقدم الأوربي في مجال الجيش والإدارة وتُوّج بإعلان الدستور العثماني الأول في 1876 والتئام أول برلمان يمثّل شعوب الدولة العثمانية. من هذه الشعوب جاء عبدُل فرشراي، الأخ الأكبر لشمس الدين، إلى إسطنبول للمشاركة في أعمال البرلمان الأول.

شكلت أعماله نواة للقومية السياسية الألبانية والتركية

في غضون ذلك اهتمت الحكومة العثمانية بإرسال الشبّان للدراسة في أوروبا في تخصّصات عسكرية وهندسية وغيرها، ولكن بعضهم عاد بأفكار سياسية شكّلت جمعية "العثمانيون الجدد" الذين طالبوا بحكم دستوري، وهو ما تحقّق لفترة قصيرة خلال 1876-1878 إلى أن قام السلطان الجديد عبد الحميد الثاني بتجميد العمل بالدستور وحلّ البرلمان. ولكنَّ ما أطلقه الجيل الأول من المثقفين (ابراهيم شناسي ونامق كمال وشمس الدين سامي وغيرهم) من أفكار جديدة عبر الصحف التي أصدروها وعبر الروايات والمسرحيات التي نشروها أثمرت ثقافة تركية جديدة متمايزة عن الثقافة العثمانية السائدة وولّدت الشعور بالهوية القومية التركية الذي كان الأساس للقومية التركية السياسية في مطلع القرن العشرين.


من القرية والتكيّة إلى المدرسة- الجامعة

وُلد شمس الدين سامي عام 1850 في قرية فراشري بجنوب ألبانيا، حيث عُرف هناك باسم سامي فراشري، في أسرة بكتاشية معروفة لعبت دوراً كبيراً في النهضة الثقافية والقومية الألبانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبعد رحيل والده انتقلت رعاية الأسرة إلى الأخ الأكبر عبدُل (تصغير عبد الله) الذي انتقل بإخوته إلى عاصمة الولاية يانينا (حالياً في شمال غرب اليونان) حيث التحقوا بمدرسة "زوسيما" التي كانت من أشهر المدارس في غرب البلقان، نظراً لأن خرّيجيها كانوا يكتسبون معرفة لغوية وأدبية وعلمية واسعة. وهكذا فقد تعلّم شمس الدين سامي، بالإضافة إلى الألبانية والتركية والعربية والفارسية التي تعلّمها في القرية- التكيّة، اليونانية القديمة واليونانية الحديثة والفرنسية والإيطالية.

ساعدت هذه الحصيلة اللغوية- الثقافية شمس الدين سامي أن يبرز في إسطنبول التي استقر فيها عام 1870، حيث عمل في الصحافة ثم في الترجمة عن الفرنسية للمؤلفات الأدبية، وهو ما جعله على اطلاع على الأدب الفرنسي ومكّنه فيما بعد من تأليف الروايات والمسرحيات. وفي هذا السياق برز اسمه مع ترجمة رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، ولذلك اندفع إلى تأليف رواية "حب طلعت وفتنة" (في العنوان العثماني "تعشّق طلعت وفتنة") التي صدرت في 1872 عن مطبعة الجوائب لتكون أول رواية في الأدب التركي.

حب طلعت وفتنة - القسم الثقافي

ومن الواضح هنا أنّ شمس الدين سامي كان يرى في الأدب، أو في الأجناس الجديدة التي أصبحت تلقى الاهتمام من القرّاء، وسيلة لنقل أفكاره الجديدة سواء في التقدم الاجتماعي أو في الأفق السياسي للدولة العثمانية كدولة دستورية تضمّ عدة شعوب لها الحق في التعبير عن نفسها ولغتها وثقافتها.

في هذا السياق يمكن قراءة روايته "حب طلعت وفتنة" التي خرقت المألوف الاجتماعي في الزواج دونما معرفة أو رؤية الفتاة لزوجها المستقبلي، حيث طرح لأوّل مرّة فكرة الحب قبل الزواج. وكما في كلّ رواية أولى تعبّر عن مشاكل المجتمع بشكل صادم، نجد طلعت الطفل ينشأ مع أمه المطلقة المنشغلة عنه بينما هو يكبر ويدخل المراهقة تحت متابعة الخادمة السودانية التي تفاتح سيّدتها في أمره وضرورة تزويجه. ومع انشغال أمّه يتعرّف طلعت على ابنة الجيران (فتنة) ويقع في حبها من النظرة الأولى ثم يجرأ على الذهاب إليها خلسة متّشحاً بثياب امرأة. ومع هذا الحب المتّقد تُفاجأ فتنة بأنّ أمّها ترغب في تزويجها إلى رجل عجوز وغني. وعندما يتم الاتفاق على العرس تكون المفاجأة الكبرى بأن "العريس" ليس سوى زوج أمّها السابق ووالدها، وهو ما يصدم "فتنة" إلى حدّ أنها سقطت مريضة وتوفيت، ويلحق بها طلعت من الحسرة عليها.

ومع كل المآخذ على الروايات الأولى إلا أن شمس الدين سامي نجح في تصوير شخصيات الرواية وتنويع اللغة بين الشخصيات (لغة الخادمة السودانية التي لا تجيد النطق باللهجة الإسطنبولية الناعمة) وتتابع الأحداث، وأوهم القارئ بأن الشخصيات من لحم ودم على اعتبار أن الفن الناجح هو الإيهام الناجح.


من العثمانية إلى التركية

مع نجاح شمس الدين سامي في هذه الرواية ثم في مسرحية "بيسا أو كلمة العهد"، وهي من أوائل المسرحيات في الأدب التركي، التي عُرضت أوّلاً في المسرح خلال 1874 ثم صدرت في 1875 وترجمت إلى عدة لغات، نجد أن شمس الدين سامي توجّه من المجال الأدبي إلى المجال اللغوي- الفكري، سواء في مقالاته الصحافية أو في أعماله المعجمية والموسوعية ليؤكد للأتراك عراقة أصلهم ولغتهم وأدبهم، وألّا وجود للغة عثمانية التي تُنسب إلى السلالة الحاكمة بل هي لغة تركية (غربية) لشعب كبير يمتد نحو الشرق حتى حدود الصين حيث تنتشر هناك لغة تركية (شرقية) كُتبت منذ القرن الثامن.

وجد في الأجناس الأدبية وسيلة لنقل أفكاره الجديدة

وهكذا كان شمس الدين سامي يضع أول "قاموس تركي" في 1900 وأصبح الآن يُستخدم تعبير "شعر تركي" لوصف الشعر الجديد الذي يتناول الحياة اليومية للأتراك وهمومهم بشكل لم يكن مألوفاً في الشعر العثماني الكلاسيكي. وفي هذا السياق أيضاً استغلّ شمس الدين سامي موسوعته "قاموس الأعلام" للتعريف مرّة أُخرى بعراقة ولغة الأتراك و"طوران" و"الطورانية" ليُعتبر بذلك من رواد القومية التركية الثقافية السياسية.

ومع بروز هذا التمايز في الهوية التركية، الذي أصبح معه اسم تركي مثاراً للاعتزاز بعد أن كان يُطلق على فلّاحي الأناضول المتخلّفين، كان شمس الدين معروفاً بنزعته المعارضة للحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد الثاني ودعوته إلى حكم دستوري وحق الشعوب الأُخرى في الدولة العثمانية في التعبير عن هويتها وثقافتها، وهو ما جعله يتعرّض إلى المضايقة المتواصلة في سنواته الأخيرة؛ فقد عاقبه السلطان عبد الحميد الثاني بالإقامة الجبرية في البيت. وفي البداية كان يُسمح له بالخروج أحياناً وفي استقبال الأقارب والأصدقاء، بينما حُرّمت عليه هذه الحرية في 1899. وحتى أنه في 1901، في يوم عرس ابنته سامية، سُمح فقط لشيخ وشاهدين بدخول البيت. وفي هذه الظروف القاسية، التي تلازمت مع معاناته من المرض، عاش شمس الدين سامي سنواته الأخيرة ومات مديوناً، حتى أنّ بيته ومكتبه بيعا لتسديد ديونه.

وعلى الرغم من دور شمس الدين سامي في "تشكيل الهوية القومية التركية"، كما يقول المؤرّخ التركي بولنت بيلمز، الأستاذ في جامعة إسطنبول الذي خصّص له أكثر من دراسة، فإن شمس الدين سامي لم يطالب بكيان سياسي للأتراك فقط، بل كان معنياً بالهويات القومية الأُخرى في الدولة العثمانية وحقّها في التعبير عن ثقافتها، حتى أنه أعدّ بخبرته كتب تعليم للعربية والألبانية بطريقة حديثة، وقد قال مرّةً لو أنه يعرف الكردية لوضع لها أيضاً كتاب تعليم بالطريقة الحديثة التي أثبتت جدواها.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون