نجيب محفوظ في يوغسلافيا السابقة وما بقي منها

نجيب محفوظ في يوغسلافيا السابقة وما بقي منها

26 مايو 2021
نجيب محفوظ في القاهرة أيار/مايو 1991 (جان-ميشيل توربان)
+ الخط -

في نهاية 2020، صدرت الترجمة الألبانية لرواية نجيب محفوظ، "الكرنك"، بتوقيع أيوب رمضاني في بريشتينا عن "دار لينا" مع عنوان وجده أنسب للتعبير عن الرواية (مقهى الكرنك)، وهو ما يتوّج علاقة ممتدّة لنجيب محفوظ وأدبه مع يوغسلافيا السابقة وما بقي منها منذ 1959 وحتى الآن.

في الحقيقة، جاءت هذه العلاقة في إطار التطوُّر الجديد للعلاقات بين النظامَين الجمهوريَّين الجديدَين في يوغسلافيا ومصر، واللذين جاءا بعد إلغاء نظامَين ملكييَيْن متعاونَين (كانت القاهرة مقرّاً للحكومة الملكية اليوغسلافية في المنفى خلال 1943 - 1944)، بعد أن ابتعد الرئيس تيتو عن المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي متوجّهاً نحو أفريقيا وآسيا وصولاً إلى مؤتمر باندونغ وعدم الانحياز.

ومع اهتمام الصحافة اليوغسلافية ببروز جمال عبد الناصر عوضاً عن محمد نجيب في مطلع 1954، بدأ الاهتمام يتزايد بالأدب المصري ولم ينته ذاك العام إلا وقد صدرت رواية توفيق الحكيم، "يوميات نائب في الأرياف"، مترجمةً عن الفرنسية بتوقيع فيرا كون. لكنَّ التقارب السياسي والثقافي بين يوغسلافيا ومصر تسارع بعد 1956 بنشر مؤلَّفات وترجمات تنقل ثقافة كلّ دولة إلى الأُخرى، وتُمهّد لزيارات ثقافية على أعلى المستويات؛ كزيارة نجيب محفوظ إلى يوغسلافيا في 1959، وزيارة إيفو أندريتش بعد فوزه بجائزة نوبل إلى مصر في 1962.

وفي ما يتعلق بزيارة نجيب محفوظ إلى يوغسلافيا، فقد جاءت في آب/ أغسطس 1959 ضمن وفد ثقافي باسم "الجمهورية العربية المتّحدة" شارك فيه من مصر وكيل وزارة الثقافة عبد المنعم الصاوي وإبراهيم زكي خورشيد، ومن سورية سامي الدروبي الذي ترجم رواية إيفو أندريتش المعروفة "جسر على نهر درينا"، واستمرّت أسبوعين (8 - 22 آب/ أغسطس). وقد ترك محفوظ بين أوراقه يوميات هذه الزيارة على شكل أسماء أماكن زارها لكي يتذكّرها ويكتب عنها لاحقاً، ولكنه كشف عن بعض تفاصيل هذه الزيارة للروائي يوسف القعيد الذي نشرها في كتاب "نجيب محفوظ إن حكى".

كانت واحدةً من بين ثلاث سفريات قادته خارج مصر

ومما يلفت النظر في يوميات محفوظ أنَّ الزيارة اقتصرت على جمهوريات صربيا وكرواتيا وسلوفينيا، وابتعدت عن الجمهوريات أو المناطق التي فيها وجود مسلم متشوّق لمثل هذه الزيارة الأولى من نوعها (البوسنة ومقدونيا وكوسوفو) كان يمكن أن يعطي انطباعاً مختلفاً عن وضع المسلمين آنذاك. ولكن الأهم من ذلك أن تخلو مثل هذه الزيارة التي استمرت أسبوعين من أي لقاء مع الكتّاب المعروفين في ذلك الوقت (إيفو أندريتش، وميروسلاف كرليجا، وبرانكو تشوبيتش وغيرهم). وفي ما يتعلّق بإيفو أندريش، تجدر الإشارة إلى أنه عندما زار مصر في 1962 كان البرنامج مرتَّباً له بأن يلتقي بطه حسين فقط وليس بروائي معروف آنذاك مثل محفوظ، ممّا يعني أنّ الأمر يتعلق بخلفية سياسية هنا وهناك.

وفي الحقيقة، كان محفوظ ليبرالياً لم يهضم ما حصل في مصر بعد 1952، وخاصة بعد 1954 مع إبعاد محمد نجيب وتصفية المعارضة المطالبة بالعودة إلى الحياة الديمقراطية، وكان من ناحية أُخرى عازفاً عن السفر؛ حتى أنه لم يسافر في حياته كما هو معروف سوى ثلاث مرّات: إلى يوغسلافيا واليمن بطلب من النظام وإلى لندن للعلاج، بينما اعتذر عن الذهاب إلى استوكهولم لتسلّم جائزة نوبل عام 1988. ولذلك فوجئ بخبر ضمّه إلى الوفد الثقافي إلى يوغسلافيا وراجع وكيلَ وزارة الثقافة آنذاك عبد المنعم الصاوى للاعتذار، ولكن فهم أن الأمر "من فوق" ولا يمكن سوى القبول به.

ولكن محفوظ عاد وأوضح بعض تفاصيل الزيارة في أحاديثه مع الروائي يوسف القعيد التي نشرها في كتاب "نجيب محفوظ إن حكى". وفي هذه التفاصيل، كشف أنَّ أحد المستشرقين من يوغسلافيا الذي لم يعد يتذكّر سوى اسمه الأول (محمد) - وكان في الحقيقة محمد مويتش (1920 - 1984) أبرز المستشرقين في البوسنة - زاره في القاهرة في 1956، وطلب موافقته على ترجمة روايته "زقاق المدق" إلى اللغة اليوغسلافية، وهو ما رحّب به محفوظ بالطبع. ولكن المصادفة شاءت أن يسمع محفوظ، بينما كان يسير مع أعضاء الوفد في بلغراد باتجاه الفندق، من يناديه باسمه العربي، فاستغرب أعضاءُ الوفد أنّ هناك من يعرفه في يوغسلافيا، ولم يكن هذا سوى محمد مويتش. وبعد السلام بادر سامي الدروبي إلى سؤاله: "هل يمكن أن تدلّنا على ملهى ليلي؟". فوجئ مويتش بالسؤال، وقال: "لأجل خاطركم سأدلّكم، ولكن لن أذهب معكم إلى هناك لأنني رجل متديّن". ويبدو أنّ ما حصل قد يفسّر عزوف مويتش عن ترجمة رواية "زقاق المدق" وتوجّهه إلى ترجمة رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي.

الصورة
رواية الكرنك - نجيب محفوظ
(رواية "الكرنك" بترجمة أيوب رمضاني)

كان مويتش يُمثّل الجيل الأول من المستشرقين الذين كانوا وراء الموجة الأولى من ترجمة الأدب العربي مباشرة، بينما جاءت الموجة الكبيرة في الستينيات والسبعينيات (مع حسن كلشي، وسليمان غروزدانيتش، وراده بوجوفيتش، وأسعد دوراكوفيتش وغيرهم) التي عرّفت بأبرز الأسماء العربية في الرواية والقصة والشعر (طه حسين، ومحمود تيمور، ويوسف إدريس، وفؤاد التكرلي، وجبرا إبراهيم جبرا، والطيب صالح، وعادل أبو شنب، وعبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش وغيرهم).

في تلك السنوات كنتُ محظوظاً بأن أكون أوّل من ترجم نجيب محفوظ إلى الألبانية حين نشرتُ فصلاً من روايته "المرايا" في الملحق الثقافي لجريدة "ريلنديا" في 12 حزيران/ يونيو 1979. كنتُ آنذاك أستعدّ للذهاب إلى القاهرة بمنحة دراسية لمدّة شهر، وكان في برنامجي أن ألتقي مع محفوظ وأقدّم له نسخة من الملحق رغبةً في استمرار العمل في ترجمة الرواية، ولكن الأمر لم يتمّ لظرف ما.

ومع أن نجيب محفوظ بقي معروفاً ومعتبَراً في أوساط المستشرقين في بلغراد وسراييفو وبريشتينا، إلّا أنَّ فوزه بجائزة نوبل في 1988 كان له دوره في إقبال دور النشر كالعادة على التعريف بالفائز بنشر بعض أعماله، وهو ما حصل في 1990؛ حين صدرت رواية "بين القصرين" بترجمة سليمان غروزدانيتش في سراييفو.

كشف بعض تفاصيلها ليوسف القعيد الذي نشرها في كتاب

ولكن محفوظ حظي لاحقاً بتفرُّغ الزميل محمد كيتسو (1949 - 2018) لترجمة أعماله إلى اللغة البوسنية، بعد أن انفرطت يوغسلافيا وأصبحت لغة الغالبية فيها تُسمّى بأربعة أسماء حسب الجمهوريات المستقلّة (الصربية والكرواتية والبوسنية والمونتغرية). فخلال 2000 - 2018، نشر كيتسو أهم روايات محفوظ (ثرثرة على النيل، وليالي ألف ليلة وليلة، وخان الخليلي، والقاهرة الجديدة، واللص والكلاب، وميرامار، وحضرة المحترم، والمرايا وغيرها)، ليكون بذلك محفوظ قد سجّل سبقاً لم يحظ به كاتبٌ عربي آخر في جمهوريات يوغسلافيا السابقة.

وبالعودة إلى الرواية الأخيرة التي صدرت لصاحب "أولاد حارتنا" في بريشتينا (الكرنك)، تجدر الإشارة إلى أنَّ المترجم أيوب رمضاني الذي تفرّغ لترجمة الأدب العربي في السنوات الأخيرة، قد أصدر قبل ذلك في 2016 ترجمةً لرواية محفوظ "قلب الليل" عن دار نشر "كوها". وقد حظيت "الكرنك" بتقدير المحكّمين الروائي إبراهيم قدريو والمستعرب سليم مالوكو (السكرتير السابق في السفارة اليوغسلافية في القاهرة)، حيث أشاد قدريو بقدرة محفوظ على جعل المقهى/ المكان بطل الرواية وما ترتّب على ذلك من التركيز على الحوار داخل المقهى، بينما ركّز مالوكو على ميزة الرواية في التعبير عن المجتمع المصري في فترة انتقالية مهمّة بعد نكسة 1967 كشفت عن مراجعة ما حدث في مصر عام 1952.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون