روح ثانية لشعر أنسي الحاج

روح ثانية لشعر أنسي الحاج

28 فبراير 2023
أنسي الحاج (1937 - 2014)
+ الخط -

تسع سنوات على رحيل أنسي الحاج. ليس الرقم لافتاً، لكنّ صدور المجموعة الكاملة لشعره عن "دار المتوسط"، كان مناسبة للاحتفال به شاعراً وعَلَماً في قصيدة النثر، وأحد روّادها الذي كان وما زال سؤالها ومُحاربها الأول؛ إذ لا تُذكَر هذه القصيدة اليوم، إلّا ويُستفزّ ذِكر أنسي إلى الآن سجالاً لا ينتهي، حتى بعد إرساء هذه القصيدة وتثبيتها. ذلك أنّ لأنسي قصيدة وفكراً حول الشعر، كانا في يومه وما زالا استفزازيَّين ويبقيان كذلك، حتى بعد تكريس أنسي وحضوره الريادي في تاريخ القصيدة، بل في التاريخ الأدبي بوجه عام. 

كان الوقت قد حان، والمناسبة استدعت عدداً من المهتمّين، بينهم الشاعر الصحافي عبدو وازن والشاعرة ندى ابنة الشاعر، لتنظيم احتفال بالشاعر وشعره، بعنوان "قولوا هذا موعدي" (20 شباط/ فبراير الجاري)، في "المكتبة الشرقية" التابعة لـ"الجامعة اليسوعية" في بيروت، شارك فيه - إلى جانب ندى وعبدو - ممثّلان هما: رفعت وجوليا قصار، وشاعر مشتغل بالمسرح هو علي مطر، بالإضافة إلى رانيا غصن الحاج زوجة ابن الشاعر، وأخرجت العرض لينا أبيض.

إعادة بناء لشعر أنسي الحاج واستخلاص نصٍّ مقابل منه

استُهلّ الاحتفال بعرض على الشاشة يظهر فيه أنسي في العديد من صوره، وفي بعضها يُلقي من شعره، قبل أن يقدّم عبدو وازن أنسي الحاج، شاعراً وإنساناً، في كلمة ألقاها من على المنصة، قبل أن تفرغ هذه لعرضٍ شارك فيه الأربعة الأوائل، ندى وجوليا ورفعت وعلي، وكان محتواه قراءات من شعر أنسي بالعربية والترجمة الفرنسية. قراءات ممسرحة، بحيث يقرأ لاعب مقاطع من الشعر ليسلّم القراءة لغيره، ولتتحوّل القراءة، مع الوقت، إلى انتقال سريع بين اللاعبين، الذين ينبس الواحد منهم ببيت، أو بكلمة من بيت، ليتلوه لاعبٌ آخر بالبيت الثاني، أو بتتمة البيت، هكذا يستمرّ التبادل بين اللاعبين، ويتسارع هذا بحيث يصل إلى ذروة تقطعُها، من بين الجمهور، رانيا غصن الحاج بغناء طويل لنص من كلمات الشاعر، فيما تخلّل العرض بين فترة وأُخرى عزف على الكمان لفرد نصر من تأليف عبدو منذر. 

بعد غناء رانيا يعود اللاعبون الأربعة إلى توزّع القراءة وتبادلها، إلى أن تتم دعوة الجمهور إلى التدخل في القراءة، فيقرأ جمعٌ عريض نسبياً، وبصوت واحد، ما يظهر على الشاشة من نص لأنسي. نص هو مثل بقية النصوص مختار بعناية، بحيث إن التلاوة المتوزّعة لم تتم عبثاً، فالنصوص والأبيات، في انسيابها وتواصلها، تتواصل بقصد وتتوزّع بقصد وتتبادل بقصد. ما يوحي أنّ وراء هذا العرض عملاً على النص الحاجي، واختيارات مقصودة، وتبويباً وانتقالات واعية، بحيث إننا هكذا أمام إعادة تركيب لشعر أنسي، وبناء منه لما يبدو نصاً جامعاً، ما يبدو وكأنه إرساء محطات مختلفة لشعره، وعقد ما بين موضوعاتها وإيقاعها، بحيث ينبني من مجموعها نص آخر، هو، على نحو ما، نص جديد، يخرج من مسرحة النص أداءً وكلمات.

الصورة
الأعمال الكاملة - القسم الثقافي

 هكذا نجد إعادة بناء للشعر الحاجي واستخلاصاً منه لنص مقابل، كأن ما صنع في النص، وما بني منه، وما انتظم فيه، عبارة عن نوع من إعادة التأليف، أو القراءة الثانية للنص والتركيب منه. لا بد أن هذا يُكسب النص حياة جديدة، بل يتم تحوله ورؤيته ثانية، وإعادته إلى الحياة، وإكسابه روحاً أُخرى. لا نعرف من هم بالضبط، ومن هو بالضبط، الذي قام بهذا التوزيع، لكنه أياً كان يُلقي نظرة ثانية على المؤلّف الحاجي، بل يشارك، من بعيد لا في قراءة النص فحسب، ولكن في إعادة رؤيته وتأويله إذ إن هذا العمل، من ناحية ما، تأويلٌ للنص الحاجي. 

إنه أنسي بعد العرض وقبله، خِلنا أننا نسمعه للمرّة الأُولى

أما المفاجأة الأُخرى فكانت في غناء رانيا غصن الحاج لمقطع من شعر الحاج. هذه هي المرة الأولى التي أسمع بها رانيا، التي لا أعرف موقعها من الغناء، لكنّ ما سمعناه كان أخّاذاً وساحراً، وأضاف إلى الإخراج والأداء قفزة كاملة. كنا نسمع رانيا فنشعر أن صوتها هو الآخر يضيف، من ناحية ثانية، قراءة أُخرى للشعر، بل يضيف إليه روحاً ثانية. لا نعرف كثيراً عن رانيا، لكن أداءها في العرض لا يبدو أنه فقط ابن ساعته، لا بد أن وراءه تراثاً طويلاً في الغناء، نرجو أن تستكمله المغنية وأن تواصله. كما لا بد أن نذكر، أن على طول العرض وفي إعداده وتركيبه على هذا النحو الممتع، كانت هناك مخرجة مهمّة هي لينا أبيض التي قدّمت بهذا العرض مسرحية كاملة.

إنه أنسي بعد العرض وقبل العرض، سمعناه من أداء اللاعبين الأربعة والمغنّية ورأيناه، في إخراج المخرجة، فخِلنا أننا نسمعه للمرّة الأُولى. لقد طال الزمن بيننا وبين هذا النص، وها هو عرضُ "المكتبة الشرقية" لا يعيده إلى السمع، وإلى القراءة فحسب، بل إنه كما رأيناه يحوّلنا نحن، لا إلى قراء بصوت عال فحسب، كما نجح العرض في استدراجنا إلى ذلك، بل يجعل منا أيضاً قرّاءً جُدداً للشعر، يجعل منا على نحو ما شعراء. لقد شاركنا نحن الحضور في اللعبة، ولم ينته العرض إلا ونحن شعراء أو أشباه شعراء، والنص منا ولنا.


* روائي وشاعر من لبنان

المساهمون