أكثر من أنسي الحاج

أكثر من أنسي الحاج

07 مارس 2021
(أنسي الحاج)
+ الخط -

انقضت في 18 شباط /فبراير الماضي، ثماني سنوات على رحيل أنسي الحاج صاحب "لن" (1960)، المجموعة الشعرية التي كانت يومها حدثاً زلزالياً في الشعر العربي ولا تزال، إلى اليوم، عصية على التصنيف، مفردة، وشبه مستغلقة.

ولم يمكن بعْدُ أن نستجلي ما أحدثته في الكتابة العربية، أو أن نتميّز أثرَها فيها. لم تكن "الرأس المقطوع"، التي تلت "لن"، تشبه تقريباً سوى امتدادها الضخم، بحيث يسعنا أن نجمع الاثنتين في مرحلة واحدة، وبحيث نجد فيهما، معاً، عملاً مدويّاً لم يُسفر دويّه بعد، رغم طول الأمد، عن نهايات جلية.

كانت "لن" و"الرأس المقطوع"، بالدرجة الأولى، تحدّياً أكبر من طاقة الشعر على تمثّله واستيعابه والخروج منه. كانتا تحدّياً ليس فقط للشعر، الذي ما يزال مصعوقاً أمام هذه التجربة، بل للّغة في بنائها ونظْمها وروحيّتها وقوامها كلّه. من يقرأهما لا يستطيع، بحال، أن يردّهما إلى هذه اللغة أو يجدلهما فيها، على أيّ نحو كان، بأية صيغة وأي ابتداء. كأنّ هذين الكتابين ليسا، إلّا في الظاهر، من هذه اللغة، وليسا، لذلك، سوى تعدٍّ مثابرٍ عليها.

ما فعله أنسي، في كتابيه هذين، كان ثورةً بحقّ. كان فِعلاً تدميرياً. كان نوعاً من العصف والاعتداء الذي وقع على الشعر وعلى اللغة، وعلى الثقافة أيضاً. ولم نستطع أن نعرف إلى الآن، تماماً، كيف تمثّلت اللغة وتمثّلت الثقافة وتمثّل الشعر هذه التجربة التي ما تزال لطمةً لكلّ ذلك، وما تزال ماثلةً في ما تركت من صِدام ومن دويّ.

شعرٌ مصنوع على ما ليس شعراً، لغة مبنيّة على عرْيٍ لغويّ

لا نجد في "لن" و"الرأس المقطوع"، ما يمكن أن نسميه الفصاحة، أو ما يمكن أن يكون غناءً أو إنشاداً. في الكتابين ما يمكن اعتبارُه فصاحةً مضادّة أو غناءً مضادّاً. هما يعرفان بالتأكيد ما يثوران عليه وما يهمّهما أحياناً أن يستحضراه على نحو سلبيّ، وأن يستحضراه في عكسه وفي ما يبدو حطامه وشظاياه. إنهما يبتكران ضدّه، لكنّه يبقى وراء ضدّه؛ تبقى الجروح التي لحقت الأصل والتي حوّلته إلى نوع محطّم، إلى تشويهٍ فحسب. ما فعله أنسي في "لن" و"الرأس المقطوع" هو هذا التشويه، هو هذه السخرية الموصولة من فصاحةٍ تتحوّل في النصّ الأنسي إلى تفكيكٍ وهزء موصول.

في النص الأنسي، في المجموعتين، ثقافةٌ أخرى. الغناء يتحوّل هنا إلى غضب. ربّما هي المرة الأولى التي نصادف فيها غضباً نَصّيّاً، لغةً صادرة من الغضب ومبنيّةً على الغضب. يطرد النص الأنسي النظْم الأدبي العربي؛ يطرد ما فيه من إعلاء وتهويل وترجيع. ما يبقى هو هذه العاصفة البلاغية التي تطيح، مع ذلك، بالبلاغة أو تُبديها أيضاً معكوسةً وملغومة.

لكنّ أنسي ليس فقط "لن" و"الرأس المقطوع". غضَبُ أنسي هو أيضاً طزاجته؛ غضبٌ يرتدّ أحياناً، بل دائماً، على غضبه. فهو لا يجعل من الغضب عقيدةً، بل هو استعدادٌ لينقلب على كلّ شيء وعلى نفسه أوّلاً. ليس "ماضي الأيام الآتية" عكسَ "لن"، لكنّه ليس "لن" على الإطلاق، بل هو بالتأكيد محاولةٌ أخرى ومِن مرجع آخر.

في "ماضي الأيام الآتية"، لسنا أمام معركة مع اللّغة، لكنّنا أمام ما يبدو نتيجةَ معركة. إنّنا أمام لغة عارية من الفصاحة، أمام لغة عادت إلى أوّليتها، إلى فطرتها، قبل أن يجري عليها النظْم ونُجري عليها الفصاحة. نحن هكذا أمام لغةٍ ما قبل أدبية، لغة ما قبل شِعريّة. إنّها اللغة في أوّليّةٍ قد تكون وهميّةً لكنّها، على كلّ حال، أوليّة مبتكرة ومفترضة. من معركة مع الفصاحة يصل الشيء إلى نوعٍ من اللافصاحة. إلى لغة يمكن اعتبارها أولى. نُحبّ "ماضي الأيام الآتية"، نحبّ ما فيها من أدب مصنوع على ما ليس أدباً، مِن الشعر المصنوع على ما ليس شعراً، على اللغة المبنيّة على عُرْيٍ لغويّ.

هكذا كان أنسي، يصنع في كلّ مرحلة تجربةً أخرى، يعارك حتّى حين لا يعارك. حين يصنع سِلْماً يصنعه على معركة، لا يستريح ولا يصل إلى خاتمة. إنّه باستمرار في قلقٍ ما بين مرحلتين. في "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة"، يجد غناءه لكنّه ليس أيضاً الغناء الذي نعرفه. إنّه غناءٌ توراتي؛ غناءٌ هو هذه المرّة غناءٌ صافٍ. إنّه رقصةٌ لشخصين. إنّه أيضاً لغتُه الخاصة. لغته الخاصة بعد معركة اللغة وعلى أرض المعركة نفسها. شِعرٌ يعود إلى الغناء بعد أن كسّر الغناء، يعود إلى الغناء بعد أن لم يعد هناك لغة إلّا ذلك الغناء وحده.

لكنّ أنسي أيضاً يختم الشعر نفسه. لقد استنفده وهو يعود إلى النثر، إلى الفصاحة تقريباً. في "الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع" نجد أنسي يتجاوز الشعر هذه المرّة. يعود إلى نوع من ترتيلِ نثرٍ شبه دينيّ. تجارب بعضها فوق بعض. الشيء ينقلب على نفسه لكنّه كلّ مرّةٍ يعود بالشيء من جديد. كلّ مرة هناك أنسي آخر. كلّ مرة هناك هذا القلق الذي يجعل لكلّ فترة قصيدتها ولكل فترة أُنسيها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون