من بين طلبة ريجيس بلاشير وخرّيجي مدرسته الفيلولوجيّة، التي يكمُن منهجها في استعادة ما تقولهُ النّصوص بعد طول معاشرتها والإحاطة بسياقاتها، يحضر جمال الدّين بن الشيخ (1930 - 2005). فقد افتتح هذا الباحث الجزائريّ مسيرَتَه العِلميّة بأطروحة حول "الشّعريّة العربيّة"، ووظّف مفاهيم الإنشائيّة الفرنسيّة لتحليل أشعار أبي تمّام والبحتري، عبر المفاهيم التي طوّرها كلّ من جون كوهان ورولان بارت من جهة أولى، والشكلانيّين الروس من جهة ثانية، من أجل استنطاق مظاهر الأدبيّة، ولا سيّما الموسيقيّة منها والبنيويّة، بعد أن خَبِر أصولَها وعايش نشأتها وحتى ضمورها. فقد برهن على مظاهر الفخامة في هذه القصائد، باعتماد التحليل الإحصائيّ والفحص الوظائفي لكلّ المكوّنات في تعالقاتها الخِلافية والتماثليّة.
ومن جهة ثانية، قدّم جمال الدين بن الشيخ أفضلَ التّرجمات لقصص "ألف ليلة وليلة"، رفقة أستاذه ورفيق دربه، المستعرب الفرنسي أندري ميكيل (1929). فقد اطّلعا على النّسخة السائرة بين الناس، بفضل أعمال أنطوان غالان (1646 ـ 1715)، ثمّ أضافا إليها مقاطعَ عديدة ممّا حذفه هذا المستشرق واعتَبرها خادشةً للحياء. ولم يكتفيا بترجمة "الليالي"، بل أعادا صياغَتَها في أسلوب معاصرٍ متخفّفٍ من أثقال البلاغة وصورها المتقادمة، مع الحفاظ على روحها الشرقيّة والتمسّك بالأصل كاملًا بعد أن عَبَثت به يد الرقابة الأخلاقيّة. وقد صدرت هذه الترجمة ضمن سلسلات La Pléiade التي تطبع أفخم النصّوص العالميّة.
كما تَرجم رحلة الإسراء والمعراج مستعيدًا مجموعة "الأساطير" التي نسجها المخيال الشعبي عن هذا الحدث لسَدّ الفراغ الحاصل في النصّ القرآني عنها. وفي معرض ذلك، درس الوظائف الأنثروبولوجيّة التي تلعبها هذه الصور في توحيد الجماعة وربطها بِرمزٍ تأسيسي. ولم يتسرّع في قوله مثلما فعل الصحافي المصري سليمان عيسى: إنّها مجرد "أوهام"، بل سايرَ رأيَ أكابر العلماء، مثل ابن عاشور الذي دعا في مقالٍ له (1937) إلى ضرورة الإيمان الإجمالي بهذه الواقعة دون الدخول في التفاصيل ولا البحث عن كيفيّاتها، وذلك بعد أن استعرَضَ آراء العلماء القُدامى فيها وما شهدوه من خلافاتٍ، ممّا يؤكد أنّ تناول بن الشيخ كان أقرب إلى التناول الرّصين. وفي هذا الصدد، نذكر أنه تخصّص في ضربٍ طريفٍ من البحث، هو فقه ترجمات القرآن، حيث درَسَ، مثلًا، تسعَ ترجمات لسورة الكهف وأبان عمّا لحقها من تحويرات في المعنى وإعادة صياغة للصور البيانيّة والمضمون الدلالي لها.
أطْلع القارئ الفرنسي على مواطن الجمال في التراث العربي
كما كان الرجل شاعرًا في اللغة الفرنسيّة، مرهفَ الحسّ، نظم العديد من القصائد الوجدانيّة، جُمِعَ بعضُها في ديوان "ذكريات الدم" (1988)، مثلما جُمعت آراؤه السياسيّة ومواقفه من الاستعمار والتثاقف والتحوّلات العميقة التي شهدتها الجزائر إثر حروب التحرير في "كتابات سياسيّة" (2001). وقد اتّخذ في هذا الكتاب مَواقف مناوئة - وهذا طبيعيّ - للعشريّة السوداء وما ارتُكب خلالها من المجازر والبشاعات، وكتبَ مندّدًا بأنها تُسهم فِي تعميق الهوّة بين الاسلام والغرب، هذا الغرب الذي اجتهد بن الشيخ أن يظهرَ له أنّ أدَبَه وَثقافته وتفاسيره القرآنيّة شديدة التعقيد والحيويّة، رافضًا اختزالها ضمن النظرات الاستشراقية التي كانت سائدة وقتها.
ولم يخلُ خطابُه من نقدٍ للمجتمع الفرنسيّ وتناقضاتِه، ومن ذلك أنّه اعتبر العلمانيّة فرصةً ثمينة للإسلام في فرنسا، وعلى المسلمين الاستفادة منها لِما توفّره من حريّة ومناخ ديمقراطيّ لم يكن متوفّرًا، خلال التسعينيات، في أغلب المجتمعات العربية، ومن فصلٍ بين المجاليْن (الروحيّ والزمنيّ) مع احترامٍ لكليْهما. ولعلّ هذه المواقف هي ما تسبّبت له بقلاقل مع بعض الإسلاميين المتشدّدين.
كما أنه كان من أفضل "ناقلي" الثقافة والعاملين على حوار الحضارات، عبر تيسير التنقّل بين العوالم الرمزيّة لكل واحدة منها ومعرفة خصوصياتها وطابَعها العميق. وأهمّ ما يميّزه في هذا الصدد دقّته اللامتناهية ومعرفته بفُويرقات المعاني التي تحملها المفاهيم، ولا سّيما القديمة. فقد كان يترجمها في دقّةٍ لافتة، معتمدًا على امتلاكه لناصيتَيْ اللّغتَيْن، رافضًا وجوب الاختيار بينهما. فالثقافة، عندَه، تنتمي إلى مَن امتلكها لا إلى مَن فُرضت عليه. لذلك اضطلع طيلة حياته بمهمّة نقل كبريات النصوص العربية شِعرًا ونثرًا، والعبور بها نحو الضفّة الأخرى، عبر لغة موليير.
كيف نقيّم هذه المسيرة الفكرية الحافلة؟ هل كانت هذه الأعمال وغيرها مجرّد صوتٍ يكرّر مقولات الاستشراق، أم إنّها افتكَّت مساحة ضمن منطق هيمنته؟ إنّ تأمّل ما أنجزه جمال الدين بن الشيخ يفضي إلى تقديره ويدعو الى تحليليه ومزيد التعريف به، فلم يكن رجْعَ صدىً للمناهج الاستشراقية، يكرّر ما ورد فيها من المواقف الناقدة أو الحاقدة، بل كان حريصًا على الإشادة بمواطن الجمال في تراثنا الأدبي والثقافي، مجتهدًا في عرض كنوزه بعد دراستها حسب مقولات المنطق العلمي، وهي مقولات لا شرقية ولا غربية، ولا يمكن نسبتها إلى أحد سوى العقل المتبصّر في أحداث التاريخ كما في تصاريف الكلام، متسلّحًا في ذلك بمعرفة معمّقة في القانون واللغة العربية.
لم يكن عمله رجْعَ صدىً للمناهج الاستشراقية ومواقفها
ومهما كان حجم توافقنا أو اختلافنا مع هذه المسيرة، فقد كان الرجل فخورًا بعُروبيّته معتدًّا بانتمائه الثقافي، تمكّن من إسْماع صوت الباحثين العرب، في جَلبَة الاستشراق الفرنسي وغُلوائِه الاستعماريّة، فلم يتصوّر أحد أن يكون أبناء مستعمَريهم بقادرين على أن يبزّوهم في ميادينهم ولا أن ينافسوهم على امتلاك المنهج العلمي ولغة التحرير الأنيقة. أسْمَعَ صوتَهُ وفَرَضَه بنفس الأسلحة التي حُورب بها، وعَرَّفَ بمظاهر فريدة من الثقافة العربية، ولا سيّما الشعر العربي الكلاسيكي في الحقبة العباسيّة. وكانت فصاحة عبارته ومتانة تحليله قد أدهشتا مُعاصريه من دارسي هذا الحقل المهجور.
أذكره جالسًا على مقعد حجريّ، في ساحة "جامعة السوربون"، تائهَ النظرات بعد أن أُحيلَ على التقاعد، قُبيل سنواتٍ من وفاته. شعرتُ وقتَها أنّ فيهما حسرة وألمًا على فشل الحوار الثقافي بين حضارتَيْ الغرب والشرق، في سنوات صعود جان ماري لوبان، وقبيْل أيامٍ من اعتداءات الحادي عَشر من أيلول/ سبتمبر؛ شاعرٌ محبطٌ من آلام السنين يرى أن أعماله وما أنفق فيها من السنوات لم تؤت أكلها، وقلمٌ وثّابٌ يَبحث عن الكلمة المناسبة ويصوغ نصوصًا متماسكة تَعبُر الثقافات وتَتجاوزها دون تحيّز ولا مجاملة، لكنّها لم تنجح ربّما في ما رمَتْ إليه.
ويحقّ في الختام أن نتساءل: لماذا لم يعد الأدب العربي، الوسيط والقديم، يثير انتباه الباحثين في الغرب، إلّا في حالات نادرة، ولا يجدُ ما كان له من صدىً في تطبيق فتيّ النّظريات النقديّة على كبار شعرائه، مع أنّ إنتاجهم ما يزال كنزًا مغلقًا؟ قد تفيد العودة إلى بن الشيخ في إنضاج مقاربتنا للأدب العربي الكلاسيكي الذي لم ولن يفقد نضارة الشباب.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
أكثر من ألف ليلة
إذا كان اسم جمال الدين بن الشيخ قد ارتبط في فرنسا بترجمته مع أندريه ميكل لـ"ألف ليلة وليلة"، فإن أعمال الباحث الجزائري تتجاوز الترجمة إلى حقول أُخرى، حيث بدأ مساره بكتاب عن خمريّات أبي نواس (1964)، وآخَر عن عقلانية ابن خلدون (1965)، قبل أن ينتقل إلى النقد الأدبي المعاصر مع "الرجل ـ القصيدة: جان سيناك" (1983). وإلى جانب الشعر، نشر أعمالاً سردية من بينها رواية بعنوان "وردة سوداء بلا عطر" (1998).