بلاد بسمارك.. رحلة مصري إلى برلين عام 1887

11 سبتمبر 2021
برلين في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

اختارت وزارة المعارف المصرية في العام 1887 الشيخ الأزهري حسن أفندي توفيق العدل ليكون أستاذاً للغة العربية في المدرسة الشرقية في جامعة برلين، عاصمة بروسيا آنذاك، بناء على طلب حكومتها، فسار إلى تلك البلاد وأمضى هناك خمس سنوات لخّصها في كتاب عنونه بـ"رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا".

وكان سبب اختيار العدل لهذه المهمة تفوقه على أقرانه من خريجي الأزهر، فقد درس الفرنسية وآدابها في إحدى المدارس الليلية، ودعم معارفه بمختلف علوم ذلك العصر، كالرياضيات والتاريخ. وعند وصوله إلى برلين شرع بتعلم اللغة الألمانية التي أجادها في ستة شهور. وحين عاد إلى وطنه وضع أكثر من كتاب عن رحلته وتجاربه ومشاهداته في ذلك البلد الأوروبي الناهض، كي يستفيد منها أبناء مصر، وفي العام 1903 طلبته جامعة كامبردج لتدريس اللغة العربية، فسافر في العام نفسه، وانخرط في المجتمع البريطاني محاضراً وفقيها للأقليات المسلمة من الهنود والآسيويين المقيمين هناك، واختير استثناءً عضواً في الجمعية الآسيوية الملكية، رغم أنها لا تمنح عضويتها للأجانب. ولكن لم يمض عام على مكوثه في بريطانيا حتى وافته المنية عن عمر ناهز الثانية والأربعين.

من الإسكندرية إلى برلين
بدأ الشيخ حسن العدل رحلته من ميناء الإسكندرية في الثالث عشر من أيلول / سبتمبر 1887، فمر على ميناء كورفر اليوناني، ورست سفينته في ميناء مدينة تريستي الإيطالية في شمالي البحر الأدرياتيكي، وكانت يومها تابعة للنمسا. وبعدما كتب وصفاً لطيفاً لها، انطلق بالقطار إلى فيينا، ثم إلى برلين.

يقول الشيخ العدل: "وصلتها (أي برلين) يوم الثلاثاء 20 سبتمبر/ أيلول 1887 ميلادية، وكان في انتظاري حضرة مدير المدرسة الشرقية ببرلين، فأوبني إلى المحل الذي أعد لنا للإقامة به، وهو محل في منزل كبير له سيدة رئيسة قائمة بواجبات الساكن لديها مقابل دراهم تدفع لها شهرياً. ونظرت باقي المحلات مشغولة بسكنة أناس أجانب ما بين إنجليزي، وإيتالياتي، وفرنساوي، وياباني، ومسكوفي، ويوناني، وأمريكاني. وحين علمت ذلك قلت للنفس لقد تم بك العدد. وسميت ذلك البلد بالمدرسة المختلطة حيث أن أغلبهم قاطنين ببرلين لتحصيل العلوم بها. فهذا يتعلم علوم الرياضة، وذلك يحصل علوم الطبيعة إلى غير ذلك".

في بيت الصور
وقد تم تعيين مترجم ودليل له، ألماني يعرف قليلاً من اللغة العربية، كونه كان سائحاً ببلاد المغرب بضع سنين. وفي عصر ذلك اليوم دعاه الشغف باستكشاف تلك المدينة إلى النزول بها والمرور في طرقاتها، كما يقول، فوجدها هي وفيينا كأنهما عروسان يتجاذبان أطراف الأخوة. غير أن برلين أكبر مساحة، وأوسع طرقا من فيينا. وبناء على طلبه، قاده الدليل البروسي إلى جامعة برلين، والتي يسميها المدرسة الكبرى، ويقول إن البروسيين يسمونها أونيفارسيتيت، فوجدها محلاً مرتفعاً، ولكنه لم يستطع الدخول إليها لعدم وجود المعلمين والطلبة بها وقتئذ، حيث كانت تلك الأيام أيام استراحة. ولكنه دخل محلاً بجانبها يقال له بيت الصور، الذي كانت فيه تماثيل مشاهير العلماء والمخترعين في العالم. فيقال للمتفرج هذا تمثال فلان الذي اخترع آلة كذا، وذاك تمثال فلان إلخ.

وفي ذلك يقول: "ولم يزالوا يقولون لي هذا وذاك، وها هو وها هناك حتى امتلأ مني القلب غيرة وحمية، وكنت خلال ذلك طامعاً في أن أرى تمثال مصري عمل كذا وكذا أيضاً، حتى أضعفت مقدار الغيرة مني، فما رأيت ولا سمعت، فذرفت العيون مني الدموع أسفاً وحمية، وصرت لا أدري موطئ قدمي وما دريت في أي مكان أن تفكراً واندهاشاً عراني من الأسف على أبناء الجنس. ولما رأى صاحبي الذي معي ما رأى سألني عن سبب انسكاب دموعي؟ فقلت له مخترعاً إنني رأيت بين التماثيل صورة كصورة أحد أقربائي، فتذكرت الوطن والبعد عنه وبعد الأهل والإخوان، فكان مني ما رأيت. فقال لي يلزمك أن تتصبر وتتسلى، فقلت نعم، ذلك ما أريد، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً".

في اليوم التالي حضر إلى مكان إقامته ضابط شرطة، دوَّن جميع المعلومات المتعلقة به قبل أن ينصرف، فكان ذلك سبباً لتعجب رحالتنا الذي أبدى سروره من "تيقظ الحامية ببرلين وتبصرهم، حيث أن كل شارع وطريق موكل لعهدة ضابط وحامية لديهم دفتر مرقوم فيه أسماء القاطنين بالجهة. وبالجملة فحامية تلك البلاد أكثر تبصراً من أي حامية سواها من البلاد الأوروباوية، حيث لتيقظهم لا يقع بها ما يخل بالنظام سواء الطريق أو المجتمعات".

عجائب البرد
وحول مناخ برلين البارد، يقول "ثم إنه لا يخفى أن برلين من البلاد الباردة التي يغلب فيها نزول الثلوج والأمطار. وفي بعض الأحيان إذا أتى الصقيع صباحاً على إثر أمطار هطلت بالليل وبقي بعض مياهها في الأرض فإنها تتجمد بحيث تصير كقطعة زجاج مسطحة صقيلة. وفي هذه الحالة لا تسلني عما يعانيه السائرون فترى الميدان أو الشارع كأنه مسجد للصلاة أو حلقة الذكر. فهذا راكع وذلك مرتعش البدن يقذف بيديه هنا وهناك. ولم تزل هذه حالهم إلى أن يسخن وجه الأرض وقت الضحى. وعندما رأيت ذلك لم أزل تالياً الحوقلة مكرراً جمل الأسف المشوبة بالضحك إلى أن جاريتهم في ذلك الميدان وصار ذلك لدي أمراً ليس من الغرابة في شيء".

ويلفت الشيخ حسن العدل أنظار القراء إلى أنه كثيراً ما طالع "في الجرائد ما يفيد أن كثيراً من عامة الناس وأسافلهم يموتون من أثر البرد، وذلك أن أحدهم إذا تصادف وشرب المسكرات وسار في طرق ليست مطروقة كثيراً للضابطة ولا للناس، كبعض أطراف المدينة، وارتمى على الأرض نشوان فلا يزال طوال ليلته ملقى حتى إذا أقبل الصباح يجدونه لا حراك به".

ومن الأشياء التي لفتت نظره الألعاب الشتوية، إذ قال: "وترى الأطفال يلعبون في الطرقات بالثلوج، فيأخذون قطعاً منها ويكورونها بأيديهم ويرمون بها بعضهم، كما يوجد ببرلين محلات للعب فوق الجليد، وذلك أنهم يتخذون قطعة أرض كبيرة المساحة ويمهدونها بآلات ويملؤونها ماء ارتفاعه نصف متر ويجعلون لها أسواراً من الأخشاب وغيرها، ويزينونها بالأعلام والرايات، فإذا حصل الصقيع يتجمد ذلك الماء ويصير جليداً مستوي السطح، فتهرع إليه الناس رجالاً ونساء وغلماناً وبنات من خواص وعوام، ويشترون تذاكر الدخول وقد أحضروا كلهم نعالاً من الحديد لها مستطيل تحتها كحد السيف فتسير بهم سريعاً، وتراهم وقتئذ يلعبون معاً ويرقصون والموسيقى تصدح لهم بألحانها".

الصيف والشوارع
بعد شرحه للبرد، يتحدث الشيخ حسن العدل عن الصيف، فيقول إن بعض الأيام منه تمر في برلين حرها شديد بالنسبة لشدة البرودة في فصل الشتاء. وقد ثار تعجبه حين شاهد في المنازل كثيراً من المراوح كونه كان يعتقد بأنه لا حاجة لهم بها لما في بلادهم من الرطوبة. ويقول: "مذ أقبل الصيف تحققت احتياجهم إليها حتى أن أرواح السيدات تكاد تزهق فترى بأيديهن المراوح سواء في المنازل أو الطريق ويبادرن مع رجالهن إلى المنتزهات، ويوجد للرجال حمامات (مسابح) في الأنهار كحمامات الإسكندرية".

وبعد أن يمتدح شوارع برلين المبلطة بالأحجار أو بالإسمنت، ويشير إلى أن أطول شوارعها اللطيفة شارع فريدرش اشتراسه، يقول: "في فصل الربيع والصيف تهرع الناس إلى المنتزه العمومي ببرلين المسمى تيرجارتن حتى أنه لتغص طرقاته بهم. فمن عربات نقل كل زوجين اثنين، ومن فرسان يتسابقون على أفراس كأنها القصور، ومن شبان يغازلون الجواري وقد تأبطوهن فيسيرون الهوينا يتناقلون أطراف الغزل والنسيب، ويشكون بث الغرام شكوى الهيام".

الأسواق والغش والمتاحف الكثيرة
كان مفاجئاً بالنسبة للشيخ حسن العدل عدم وجود أسواق معدة لبيع أشياء مخصوصة كما في مصر، كسوق العطارين والنحاسين والبرادعية مثلاً، حيث إن الأسواق في هذه المدينة متفرقة في جميع الشوارع إلا حوانيت الخضروات. ومن الأشياء التي توقف عندها الغش في الأسواق، فعلى الرغم من أسواق برلين جميلة، كما يقول، وكذلك حوانيتها، التي تمتلك واجهات وأبواب من زجاج سميك، كما هو الحال في بعض شوارع القاهرة والإسكندرية، فإن الباعة الذين يصفون معروضاتهم بوضع منظم ومكتوب على أغلبها الأثمان، يريد من وراء ذلك تغرير المتفرجين حتى إذا زلقت أرجلهم إلى داخل الحوانيت رأوا الغش في البيع أصنافاً وأجناساً.

أحد أسواق برلين في القرن التاسع عشر (Getty)
أحد أسواق برلين في القرن التاسع عشر (Getty)

ويشير الشيخ حسن العدل إلى أن أغلب العاملات في الحوانيت نساء وبنات، ويقول: "تراهن نشيطات في أمور البيع يختلبن عقول الرجال عند الشراء بخداعهن وحيلهن ورقة ألفاظهن". وثمة معلومة لافتة يذكرها رحالتنا حول حالة الاحتقان الكبيرة التي يشعر بها التجار المسيحيون حيال التجار اليهود في المدينة، وحالة التنافس الكبيرة بينهم، وهي إشارة مهمة في سياق دراسة نمو المشاعر المعادية لليهود في ألمانيا، والتي أدت في أوقات لاحقة إلى عواقب وخيمة. وحول ذلك يقول: "ترى التجار اليهود يبيعون بأثمان متهاودة فتحسدهم تجار النصارى فيقللون الأثمان، وهكذا حتى ارتكز في قلوب النصارى عداوة اليهود المعززة بعداوة الدين. ويوجد ببرلين محل تجارة كبير جداً لأحد أغنياء النصارى، وقد قضى على نفسه ألا يستخدم في ذلك المحل يهودياً فتجد لديه من الخدمة 300 شخص نصراني خلاف الكتاب والصيارفة، ويغلب على ظني أن أولئك الخدمة إذا علموا بأن المشتري يهودياً لم يبيعوا له ولو دفع الأثمان أضعافاً مضاعفة".

ويذكر الشيخ العدل أنه زار العديد من المتاحف في برلين وهو يسمي المتحف أنتيكخانة، ومن ذلك متحف لآثار الأمم الحديثة "يشتمل على الذخائر الجديدة والأدوات المستعملة في المعائش، من كل مملكة غير أوروباوية ومن الديار المصرية". ويقول إنه رأى "من جملتها كثيراً من البلاليص (جرار الفخار) والقلل القناوي، وأباريق الحملية والنعال الحمر، والبلغ والضبب الخشب، والغوايش الزجاجية، وعقود الخرز والطبل والتارات والضربكات إلى غير ذلك حتى ظننت أني بسوق الجمعة أو بسوق العيد".

ويحدثنا عن المتحف الحربي الذي يسميه بيت السلاح، والذي رأى فيه المدافع والبنادق والسيوف والملابس الحربية والأعلام التي غنمتها بروسيا من الدول التي حاربتها، ورأى سرجاً مذهباً مكتوب إنه هدية من محمد علي باشا والي مصر. ويبدي الشيخ العدل إعجابه بوسائل النقل في المدينة والتي تتكون في أغلبها من سكك حديد لعربات الخيول لمن يريد الركوب من محل إلى آخر، ويقول إنها عظيمة الفائدة لا يستغنى عنها، وعليها تتوقف مصالح الأهالي. ويشير إلى أن كل ما ذكره من جهة العربات له قانون مخصوص يعلمه الخاص والعام لا يتجاوز حده زيادة ولا نقصاناً.

وفي مقارنة مع وضع العربات في مصر، يقول: "إذا قسنا ذلك بمركوباتنا المصرية وعربات أشغالنا وخدمتها رأينا الشيء وما ينافيه، فترى الإنسان يقاول الحمّار وسائق العربة مثلاً، ويتفق معه على أجرة مخصوصة حتى إذا أوصله نظر المكاري للراكب فإن أفندياً خاطبه متواضعاً ويعطيه رتبة البيك وشكا إليه حاله وبكى بدموع تهطل على صدره، فإذا لم يرق لحاله الأفندي ودخل المحل الذي يريد دق عليه الباب وصاح وسب وشتم بالكناية إلى أن يأتيه الأفندي المذكور، فإما أن يعطيه زيادة على الأجرة أو يضربه ويطرده. وأما ذلك إذا كان شيخاً أو تاجراً أو صانعاً مثلاً، فما على المكاري إلا أن يقبض بثيابه أو يحول بينه وبين طريقه، فتجتمع الناس عليهما، فيعطلون نظام الشارع والسائرين، ولا يخفى أن ذلك خارج عن الآداب المدنية والمصلحة الأهلية. فما علينا لو قام الناس لشركات الحمير والعربات وجعلوها قانوناً مخصوصاً".

البرلمان وبسمارك
من أهم مشاهداته في برلين ما رواه عن التئام اجتماع للمجلس النيابي، وسط مظاهر احتفالية وصفها لنا بما يلي: "ذات يوم سمعت ضجيجاً بالطريق ففتحت شرافته، لأنظر ما هو الضجيج، فألفيت الشوارع غاصة بالناس يمشون العجلة ولهم صريخ عال، فسألت بعض من في المنزل بما معناه: مالي أرى الناس في حيص بيص؟ فقيل لي إنه سيلتئم البرلمان ساعتئذ بحضرة البرنس بسمارك، وها هو سائر والناس حوله. فأسرعت في النزول لأكتشف هذا الأمر، وأعلم هذه العادة، وأتعرف ما هم عليه وقتئذ، فوافيت هذا المجتمع وإذا بالبرنس بسمارك يسير ماشياً وحوله الناس من شريف وغيره محتاطين به، ومتهافتين عليه تهافت الذباب على الشراب، بحيث إذا مشى خطوة رجعها إلى الخلف وكلهم رافع قلنسوته ماداً بها يده نحوه قائلين بأعلى صوتهم هذه الكلمة يكررونها (هوخ)، ومعناها بلسانهم عالي، يعنون بها الدعاء بكونه لا يزال عالياً".

ويضيف: "المنازل مفتوحة والشرفات ينظر منها القاطنون رافعين أصواتهم بتلك الكلمة أيضاً. ومن العجيب أنه كثيراً ما رأيت بعضاً منهم عند رؤيته لي وعلمه بأني أجنبي لرؤيته "الشربوش" يمد يده بقلنسوته نحوي، وينظر تارة لجهة بسمارك وطوراً إلي ويصرخ قائلاً الكلمة المذكورة كأنه يفاخرني ويباهيني بذلك. ولم يزل سائراً وهم حوله متزاحمين عليه حتى وصل البيت المعد لانعقاد البرلمان، فهرعت الناس خلفه ودخلوا ذلك البيت حيث أنه لا حرج عليهم في ذلك. وحلول وقت تدريسي بالمدرسة الشرقية، قد حال بيني وبين مشاهدة ذلك المجلس الذي كانت رؤيته من أكبر أماني".

المساهمون