أسواق القتل

أسواق القتل

29 يناير 2024
أطفال فوق أنقاض منازل دمّرها العدوان في رفح، 27 كانون الثاني/ يناير، 2024 (Getty)
+ الخط -

الساسة والاقتصاديون يقولون لنا إنّ الحرب سوف تطول، وعلينا أن نتوقّع اضطراباً في الأسواق وعدم استقرار في المنطقة، وهذا قولٌ لا أكتب عنه كسوريّ، لأنَّنا هُنا في حرب منذ أكثر من اثني عشر عاماً. أكتب عنه كواحدٍ من أهل الأرض، كواحدٍ من البشر.

إذاً، الساسة والاقتصاديون يقولون لنا إنّ الحرب سوف تطول، ولا مناص من التعامل معها. هذا شكلٌ من التحذير لا نعرف، نحن ممّن لا يملكون من أمرهم شيئاً، طريقة للتعامل معه. إنّه تحذير يُطلقه من يعرف ويملك وله أن يُساهم في وقف الحرب، إلينا، ممّن لا يملكون من أمرهم شيئاً، ولا يعرفون طريقة كي ينصروا إخوتهم في الجوار، إخوتهم الذين تَدكّ بيوتَهم آلةُ القتل الهمجية، حتى إنَّ أهل غزة يعيشون في الأنقاض، والكثير منهم لم يُغادروا بيوتهم. كثيرون منهم يفضِّلون الأنقاض على الخيم، فيما أهلُ السياسة والاقتصاد يتحدّثون بوتيرة دائمة عن الصعوبات التي سوف تُواجهها الأسواق.

لا يحتاج المرء إلى الكثير من المبالغة كي يقول إنّ الشكل الذي وصل إليهِ عالم اليوم، يحدث فيه القتل إلى جوار ضرورة الحفاظ على ريتم التسوّق، وكأنّما جميعاً ندور في عوالم موازية. كلّ شيء يحدث في الوقت نفسه، وكأنما الحروب نفسها صارت أسواقاً للقتل.

"غيتو عسكري" يحاول التوسع في محاولة للهرب من مصيره المحتوم

العالم معقَّد، وتفاعُلاتنا كبشر معقّدة. لكن يستمرّ صوت مُلحٌّ بالتأكيد لنا أنّ القتل يحدث في الجوار، وهو قتل تقوم به آلة عنصرية، تقتل الإنسان الفلسطيني لاعتباره فلسطينياً، كما ينمو لدى الصهاينة قلقٌ تجاه الغد، فهُم إذا قتلوا كلّ الشعب الفلسطينيّ ستبقى قضية فلسطين تُلاحقهم. ومن غير أن يغرق المرء في الشعارات، فثمّة حقائق يدمغ بها التاريخ الوقائع كلّها.

حتى إنّ سيناريو متخيّلاً يفترض وصول الصهاينة إلى أحلامهم على دماء ملايين الفلسطينيّين؛ يبقى سؤال الغد بالنسبة إلى الصهاينة سؤالاً مشرعاً على المجهول؛ إذ تبقى "إسرائيل" غيتو مُغلقاً في محيطٍ يرفضها، وما من شكّ في أنّ المذبحة المستمرّة التي تحدث في حقّ الشعب الفلسطيني إنّما ترفع لدى شعوب المنطقة الأسوار حول هذا "الغيتو العسكري".

وبنظرة تُشرف على التاريخ القريب، يمكن للمرء أن يقول إنّ "إسرائيل" نكوص في تجربة اليهود ككلّ، وقد أعادتهم إلى الأسوار محاطين هذه المرّة بالكراهية بسبب جرائم الصهاينة بحق الفلسطينيّين. الصهاينة لا يكفّون عن اختطاف المسألة اليهودية وتوريط اليهود في مأزق يبدو بلا مخرج. وما تخبُّط الإسرائيليين في القتل والاستباحة لتوسيع الغيتو العسكري إلّا بحثاً عن مخرج عنيف لما هو قادم لا محالة، حتى لو أخذوا فلسطين كلّها، حتى لو حقّقوا حلمهم العنصري الجنوني بأن يصيروا عدّة ملايين من المستعمرين اليهود الأنقياء الذين يعيشون داخل أسوار قلعة عسكرية مغلقة.

تبقى "إسرائيل" بلا مستقبل، لأنَّ فكرتها تُنافي الأزمنة التي تتعدّد فيها الهويات والانتماءات. أخال أنّ "إسرائيل" باعتبارها، كما يسوّقون لها، وطناً لليهود، فكرة غارقة في الماضي، ومحكومة باستحالة المستقبل. أمّا بالنسبة إلى أهل غزّة، فقد استمرّوا بالعيش في الأنقاض. نرى صورهم، نراهم ونحن مكبّلون بالعجز وبتحذيرات الساسة والاقتصاديّين من أنّ الحرب ستطول.

لكن إلى متى ستطول، وإلامَ سوف تنتهي؟ لا أحد يقول لنا. فقط يخرج إلينا من عمق التاريخ، مصير الغيتو الذي أقامه الصليبيّون في فلسطين، ومن ثمّ عادت فلسطين إلى أصحابها. هذه حقيقة لا يوجد ما يغيّرها، ويمكن أن يسوّقها الساسة بموازاة التحذير من اضطراب في المنطقة؛ فحيث نعيش كلُّ العوالم متوازية، والماضي درس الحاضر.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون