"صديقتي المذهلة" لإيلينا فيرانتي: دورة الاختفاء

"صديقتي المذهلة" لإيلينا فيرانتي: دورة الاختفاء

24 ابريل 2022
الشعيبية طلال/ المغرب
+ الخط -

ما كنّا نتوقّع لرواية الكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي، "صديقتي المذهلة"، أن تنتهي من حيث بدأت، بعد أكثر من ألفي صفحة توزّعت على أربعة أجزاء، آخرها كان بعنوانٍ ثانٍ: "حكاية الطفلة الضائعة" (دار الآداب، 2018). كانت بدايتها باختفاء دُميتي الصديقتين ليلا وإيلينا، بعد أن رمت كلّ منهما دمية الأخرى ولم تعثرا لهما على أثر. رمتا دميتيهما المسمّاتَيْن تينا ونو، وحين لم تجداهما، خطر لهما أن دونْ أخيل كراتشي هو الذي أخفاهما، فصعدتا إليه.

في نهاية الرواية تتلقّى إيلينا، بعد أن شاخت وفارقت نابّولي إلى مدينة أخرى، بريداً لم يكن سوى علبة حوَتْ الدُميتَيْن. لا نعرف سرّ ذلك، لكنّنا ننتبه إلى أن الرواية بدأت باختفاءٍ لم يكن وحده الذي حدث. ففي سياق الرواية سنعثر على أكثر من اختفاء لا يترك أثراً: اختفاء بنت ليلا، تينا، التي لم يكن صدفة أن لها اسمَ إحدى الدميتين، ثم اختفاء ليلا نفسها. اختفاءات لم تلقَ تفسيراً وبقيتْ ألغازاً.

لكنّ هذا يردّنا إلى معنى الرواية نفسها وإلى بطلتها التي هي الصديقة المذهلة، ليلا، وإلى سياقها الذي هو، في آنٍ واحد، سيرة البطلة وسيرة مدينة نابولي. في هذا السياق نحن أمام شخصيتين: ليلا وإيلينا. الشخصيتان هما لصديقتين من الحيّ نفسه، في المدينة نفسها. للصديقتين ذاتُ العُمر وذات المكان وذات السيرة. إحداهما (إيلينا) هي التي تروي، لا قصّتهما معاً أو وقائع الحيّ التي هي، من بعيد، تاريخ مدينة نابولي، وربّما تاريخ إيطاليا الحديث، بل بالدرجة الأولى قصّة ليلا، التي غادرت المدرسة بعد الصفّ الخامس الابتدائي، والتي انتقلت بعد ذلك إلى مواقع وتجارب شتّى. ليلا هي في الواقع الشخصية الأولى في رواية إيلينا، التي تغدو روائية معروفة. وما تفعله إيلينا، الروائية والكاتبة، ليس سوى ملاحقة ليلا في حياتها وسيرتها. خلال ذلك نُتابع أيضاً حياة إيلينا وهي تتحوّل إلى كاتبة، لكنّ هذه الحياة هي غالباً وراءَ حياة ليلا وفي إثْرها.

سرد لنظرية ليلا في الحياة التي هي اختفاءٌ بالدرجة الأولى

ليس الاختفاء المتلاحق من الدمية إلى ليلا نفسها، سوى عنوان حياة ليلا، بل هو أيضاً نظرتها إلى الحياة وإلى نفسها. ليلا التي غادرت المدرسة مبكّراً، بعد أن كانت متفوّقة فيها، والتي كتبت في طفولتها قصّة "الساحرة الزرقاء" التي ألهمت إيلينا، إيلينا التي صارت "بفضلها" روائية فيما بعد. ليلا هذه، في كلامها على الحياة، لا تريد أن تترك أثراً. إن حياتها هي، كما تلاحظ صديقتها، عبارة عن "محو الأثر". والحال أنّنا في متابعتنا لحياة الصديقتين نلاحظ، كما تلاحظ الروائية نفسها، أن حياة الاثنتين متداخلة، بحيث إننا لا نستطيع أن نفصل بسهولة ما بين الحياتين والسيرتين، رغم أنهما في الظاهر منفصلتان ومتباينتان تماماً. لا نستطيع بسهولة أن نربط بين حياة مثقّفة وجامعية وروائية معروفة كما هي حال إيلينا، وبين تاجرة وعاملة مثل ليلا.

قد نحسب أن لكلٍّ من الاثنتين حياتها المختلفة والمنفصلة، لكنّ الأمر ليس كذلك بحسب رواية إيلينا، فهي، الروائية، وليلا التاجرة، ليستا منفصلتين، بل هما متكاملتان ومندمجتان. أكثر من ذلك: إننا لا نملك أن نميّز إحداهما عن الأخرى. إذا كانت إيلينا هي الروائية، فإن ذلك ليس سوى انعكاس، بل وتواصل، لما كان يمكن أن تكونه ليلا، هي التي كتبت في طفولتها قصّة "الساحرة الزرقاء" التي ألهمت إيلينا ــ بحسب اعترافها ــ في روايتها الأولى، بل في أدبها كله، والذي بقيت إيلينا، بعد ذلك، تلتقطه من كلام ليلا، بل ومن إلهامها. إن إيلينا، الكاتبة والروائية، ليست سوى ظلّ ليلا، إنها فقط هِبةُ ليلا. إنها، ككاتبة وإنسانة، مجرّد منحة من ليلا، مجرّد خاطر لليلا، وواحدة من تجلّياتها.
ليلا التي تصنع الحياة وتلهمها ولا تبالي، حياتها هي هذا المحو للأثر المتّصل والمستمرّ، بل حياتها هي صنع الحياة وارتجالها. إنْ تكن إيلينا هي الراوية، فليلا هي الرواية. 

يمكننا لذلك أن نفهم لماذا اختفت ليلا، وقبْلها اختفت الدمية المسمّاة تينا، وتينا نفسها. إنها نظريّتها في الحياة التي هي، قبل كلّ شيء، هذا الاختفاء، وهذه الصناعة المجّانية وغير المبالية والماحية في ذات الوقت. نفهم، إذاً، أن ليلا هي الأصل، هي الحياة نفسها، وإيلينا فقط الظل. يمكن هكذا أن نكون فقط ظلالاً، وتكون الحياة أمامنا، تُصنع وتستمرّ تختفي في مكان آخر.

 

* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون