"ذاكرة الناس الأكثر سرّيةً": ملحمة الهوية

"ذاكرة الناس الأكثر سرّيةً": ملحمة الهوية

27 مارس 2022
محمد مبوغار سار بُعيد الإعلان عن فوزه بـ"غونكور"، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي (Getty)
+ الخط -

رواية السنغالي الشاب محمد مبوغار سار، "ذاكرة الناس الأكثر سرّيةً"، التي استحقّ عليها "جائزة غونكور" الفرنسية لعام 2021، هي من الأدب الفرنكوفوني الذي لا يزال سؤالاً في الأدب الفرنسي، وقد تكون الرواية، في واحد من جوانبها، هذا السؤال، وإن يكن من جهة ثانية.

الرواية تبدأ من هذا الأدب الفرنكوفوني، الذي هو حلقة رئيسية فيها، هي متعدّدة الحلقات. تبدأ رواية مبوغار من رواية فرنكوفونية، يظلّ الكلام عليها وملاحقتها وملاحقة صاحبها، محوراً أساسياً في "ذاكرة الناس الأكثر سرّية". تبدأ من رواية ت. س. إليمان "متاهة اللاإنساني"، التي صدرت في مستهلّ الأدب الفرنكوفوني، وأثارت حين صدورها سجالاً ما لبث أن اختفى، وغارت الرواية في النسيان. نحن هكذا أمام سؤال الأدب الفرنكوفوني، ليس مكانه من الأدب المكتوب بالفرنسية فقط، ولكن سؤاله تجاه نفسه، تجاه مصدره وإنشائه وهويته. سيبقى هذا سؤالَ الكثيرين من الأفارقة والسنغاليين، الذين يعيشون خارج بلادهم ويكتبون بغير لغاتها. الحياة خارج البلاد تعني التجوّل، ليس في فرنسا وحدها، ولكن أيضاً في عالم مختلف، في أمستردام والأرجنتين وبلدان أميركا اللاتينية.

كان هذا شأن إليمان الذي راح يبحث عن نفسه في هذه البلدان، في حين انقطع عن السنغال، ولم تكن هذه حاله وحده، فالسنغاليون الفرنكوفونيون سرعان ما ينقطعون عن السنغال. هذا الانقطاع، وذلك التعثّر في لغة أخرى، هما حال الكتّاب الفرنكوفونيين الذين يمتّ جانب منهم إلى إليمان، لا بالصدفة، بل بالقرابة، إذ هُم من سلالته. ليس هذا القرب العائلي بالمصادفة، فنحن هكذا أمام السنغال، بل وأمام أفريقيا، مقابل فرنسا وبقية الكولونياليات. نحن لا نصل إلى إليمان إلّا بعد إرث عائليّ، حمل منذ البداية ذات السؤال. لقد كانت العائلة من قبل، وعبر أجيال في هذه القضية التي أنجبت إليمان وقدّمت لمسألته.

أكثر راديكالية وإيحاءً من توفيق الحكيم والطيّب صالح

يمكن أن نقف هكذا أمام التوأم الذي تألّف من أبيه إيسان وعمّه أوسانيو، التوأم الذي انقسم شقّاه منذ البداية، وانفصلا على المسألة التي ستغدو عِماد الرواية. إنها مسألة الهويّة التي افترق حولها إيسان الذي درس في إرسالية وتعلّق بفرنسا والأدب الفرنسي، وأوسانيو الذي بقي أميناً للتراث الأفريقي السنغالي. في حين غادر إيسان إلى فرنسا، بقي أوسانيو في القرية صيّاداً. لا نعرف تماماً رمزية موسان الجميلة التي تعلّق بها أوسانيو، لكنّها هي الأخرى لحقت بإيسان وتزوّجته، وحملت أثناء هذا الزواج طفلاً لم تكن ولدتْه حين صاحبها إيسان إلى القرية السنغالية لتلد هناك، في حين كان هو على أهبة ان يلتحق بالجيش الفرنسي، تاركاً زوجته الحامل لأخيه التوأم الذي يبادله الكره، وتكون النتيجة أن يُقتل إيسان بعد أشهر من التحاقه.

موسان التي لا تعرف القراءة، ليست فرنكوفونية، وتغادر مع ذلك إلى باريس، هي الأميّة التي لا تحسن الكتابة. لا تلحق موسان بفرنسا الثقافية والأدبية، وهي مع ذلك قد تكون كناية عن السنغال أو عن أفريقيا الفرنكوفونية. سيكون ولدُها إليمان مثلها، فهو ابن إيسان الفرنكوفوني بالاسم، لكنّه في الواقع ابن أوسانيو كما سنعرف فيما بعد. إنه أيضاً السنغال نفسها، وروايته "متاهة اللاإنساني" ستلقى مثله مصير السنغال. لقد نُسيَتْ ونُسيَ إليمان.

الصورة
ذاكرة الناس الأكثر سرّيةً - القسم الثقافي

الرواية في موضوعها تتكلّم عن ملكٍ دمويّ يزرع ضحاياه، الذين تنمو من أجسادهم أشجار. ستكون هذه المقبرة النباتية إشارة أخرى إلى السنغال. هنا تُطرح مسألة الهوية على نحو صريح وفصيح، بحيث نتذكّر حضورها في حياتنا العربيّة، بل نجد أن في طرحها، على هذا النحو، ما يتجاوز الأطروحات العربية التي تدور حولها. إذا تذكَّرنا توفيق الحكيم في "عودة الروح" والطيّب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" بدا لنا أن مبوغار في روايته هذه، ليس أصرحَ فحسب، بل هو أكثر راديكالية، إذ إن مقالته عن مسألة الهوية ومتابعتها على طول التاريخ السياسي والثقافي للسنغال وأفريقيا، يبدوان أكثر جذرية وأكثر إيحاء واتّصالاً.

لنعد ثانيةً إلى رواية إليمان، "متاهة اللاإنساني"، لنجد أن نقاد الرواية، بل وناشرها في البداية، لاحظوا أنها تكاد تكون انتحالاً للأدب الفرنسي عبر عصور. انتبهَ إلى ذلك الناشر الذي اقترح أن توضع المقاطع المنحولة بين هلالين، الأمر الذي أغضب إليمان. عاد الناشر وقبلَ بنشر الرواية كما هي، الأمر الذي أدّى، في النهاية وبعد أحداث متوالية، إلى إغلاق الدار التي نشرتها. هذا الانتحال الأدبي، أليس انتحالاً سياسياً أيضاً؟ هل أراد إليمان أن يكون هكذا فرنسياً ووارثاً للثقافة الفرنسية؟ ألم يُطَح هذا به حتى وجدناه يعود ــ في نهاية حياته ــ إلى قريته حيث يواصل الصلاة الإسلامية، في إشارة إلى العودة إلى التراث؟

تبقى مع ذلك المسألة معلّقة وواقفة في الوسط. هكذا تنتهي رواية مبوغار سار، لكن بعد أن تتلاحق مسائلها وحوادثها بين الشعر والتحليل النفسي والحرب والحبّ والسياسية والسرد والفكر. رواية مفعمة وملأى وعارمة، وهي بذلك تكاد تكون ملحمة هذه الهوية ومسارها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون