صفحات "هزلمأساوية" من تاريخ حكم العسكر (3)

19 يونيو 2019
+ الخط -
(ـ عبد الناصر يرفض طلب المشير عامر بالهجرة إلى إيطاليا عقب وقوع الهزيمة ـ ناصر يقترح على عامر أن يذهب إلى يوغوسلافيا بدلا من إيطاليا وعامر ينفجر غاضبا ويقول لناصر: "مش هاسافر وحاتحداك لآخر نفس في حياتي" ـ المشير يقول لرفاقه: هوّ أنا إشتركت في طرد فاروق الأول علشان أستبدله بالمستبد عبد الناصر الأول ـ معركة حامية في قلب القاهرة بسبب ضابط يريد عبد الناصر اعتقاله ويرفض عامر تسليمه ـ قائد الصاعقة السابق الموالي لعامر يختطف ضابطي شرطة كانا يراقبان بيت المشير وهيكل يقوم بالتوسط لإخلاء سبيلهما ـ جمال سالم يذكر عامر بأن ما جرى له سببه سكوته على أكل ناصر لرفاق الثورة وينصحه بالتوبة وحفظ القرآن)

بالتأكيد لم يشهد التاريخ المصري الحديث والمعاصر صداقة سياسية على أعلى قدر من التعقيد والغموض والخطورة، كتلك الصداقة التي نشأت بين الضابطين بالجيش المصري جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، والتي كانت أبرز الصداقات القاتلة لطرفيها، لكنهما لم يدفعا

وحدهما ثمن تلك الصداقة، بل دفعته مصر بأكملها غالياً، ورغم أن دراسات وشهادات كثيرة قدمت محاولات لرسم ملامح تلك الصداقة، واتفق معظمها على أن عبد الناصر كان مصابا بضعف إنساني شديد تجاه عبد الحكيم عامر، وأن ذلك الضعف كان أكبر أخطائه وعيوبه، إلا أن تصور عبد الحكيم عامر لتلك الصداقة وموقفه منها ورؤيته الحقيقية لصديقه عبد الناصر، لا زال حتى الآن غائماً وغير واضح، وهو ما يعطي لشهادة البرلماني والسياسي عبد الصمد محمد عبد الصمد أهمية خاصة، برغم أنه يروي لنا آراء صدرت عن المشير في حق صديق عمره، في لحظات عصيبة لا يسودها الصفاء والود والتفهم الإنساني، بعد أن وقعت واقعة الهزيمة، وبدا واضحاً أن لحظة الحساب بين الإثنين قد حانت بكل مخاوفها ومتطلباتها المريرة.

يروي عبد الصمد محمد عبد الصمد، كيف رفض المشير عامر بعد عودته إلى القاهرة، كل عروض عبد الناصر عليه بقبول مناصب شرفية لا اختصاصات حقيقية لها، ومع تكرار تلك العروض بدأ بعض المحيطين بالمشير ينصحونه بقبول بعضها، لكن رفضه كان يزداد حدة كل مرة، وحين نصحه أحد المقربين منه ذات مرة ـ لم يذكر عبد الصمد اسمه ربما خوفاً من إغضابه ـ أن يقبل عرضاً قدمه له عبد الناصر، مستخدماً تعبيراً غريباً، حيث نصح المشير أن يكون "زي عود القصب يميل علشان الناس تدوق السكر"، فرد المشير رداً غاضباً يكشف أنه كان ينوي الدخول في مواجهة مفتوحة مع جمال عبد الناصر: "ما شاء الله، وليه ماتقولش كمان إن كان لك عند الكلب حاجة قول له ياسيدي، واللي يتجوز أمي أقول له يا عمي، إيه الهيافة دي، عايزني أنحني لجمال؟.. طيب ما كنت انحنيت لفاروق.. هو أنا اشتركت في الثورة علشان أحكم ولا أنحني؟ وإذا كان عبد الحكيم عامر حينحني فما فيش حد في مصر حيقف قدام جمال تاني، والتاريخ يكتب إنه مافيش حد في مصر يفوقه ولا حد رفض منصب زي اللي رفضته، ده حتى رجع في كلامه وسحب عرضه بمنصب نائب القائد الأعلى، وقلت له إنت بتفكر إزاي، إنت ناسي إني رفضت رياسة الجمهورية؟ عايزني دلوقت ارجع نائب ليك، وفي أي وقت تطردني بعدما أكون كتبت علي نفسي إني المسئول عن الهزيمة، وفيه فايدة أكتر من رفضي إني ما ارتكبش جرائم أخرى، كفاية إنه نجح في لعبته وخلاني أقبل رئاسة لجنة الاقطاع، وكانت غلطة مافيش كلام وإندبّيت فيها برضايا، لكن بكره الناس يقروا كلامي وكلام علي صبري في محاضر لجنة الإقطاع، ويشوفوا كان حيعمل إيه ـ يقصد علي صبري ـ لو كنت رفضت رياسة اللجنة ورأسها هو، المسألة دلوقتي إني ما أسكتش وأدفن تاريخي بإيدي، هو أنا اشتركت في طرد فاروق الأول علشان أستبدله بمستبد تاني اسمه عبد الناصر الأول؟، وبعدين أروح أقعد في أسطال ألعن نفسي والتاريخ يلعني".

المشير التائب

لم يرد عبد الصمد أن يفوت فرصة مراجعة صديقه ورئيسه لنفسه ولعلاقته بعد الناصر، ولذلك قرر أن يسأله بمناسبة حديثه عن رفضه للإستبداد: لماذا وافق من قبل على القانون الذي يعطي السلطة الحق في اعتقال أي مصري دون ذكر أي أسباب؟ فلم يقم المشير عامر بتبرير القانون أو الدفاع عنه، كما يفعل دراويش الناصرية دائماً، حين يتحدثون عن ضرورات المعركة وتحديات الصراع، فما قاله عبد الحكيم عامر طبقا لشهادة عبد الصمد كان كالآتي: "المهم مش الغلط، المهم تصحيح الخطأ، فإذا استطعت التصحيح يبقى التائب من الذنب كمن لا ذنب له، زمان كنت أقدر أصحح، النهارده أحاول، إذا قدرت خير وإذا ما قدرتش أبقى حاولت"، وبالطبع لم يقل له عبد الصمد إن الوقت أصبح متأخراً على أي تصحيح، بل اعتبر إجابته منطقية ومبشرة.

يشير عبد الصمد بعد روايته لما قاله عامر، إلى رواية مهمة حدثت لاحقا، تزعم أن عبد الناصر قرر تصفية صديقه عامر، بعد أن علم أن عامر ينوي مواجهته بقوة وشراسة، أو هذا ما قاله شمس بدران لعبد الصمد، حين كانا سوياً في المعتقل، مؤكداً له أن عبد الناصر كان على علم بكل كلمة قالها المشير ومن قابلوه وزاروه، وإن كان شمس قد استبعد فكرة وجود جاسوس في بيت المشير، لأن عبد الناصر كان على علم بما يدور حتى في الجلسات المغلقة التي كانت تنعقد في الغرفة التي يجتمع بها المشير بضيوفه، مما جعل شمس بدران يؤكد أن عبد الناصر وضع بطريقة ما، جهاز إرسال صغير ودقيق في غرفة صالون المشير وفي مكتبه، خاصة أن الروس كانوا يصنعون مثل هذه الأجهزة المتطورة ويبيعونها لأجهزة المخابرات الحليفة، وقال شمس بدران لعبد الصمد إن أحد كبار الزائرين والذي كان يتصل بعبد الناصر والمشير في فترة الوساطات الدائرة بينهما، جاء ذات يوم لينتظر المشير في الصالون، ووضع الجهاز الذي يشبه زرار التنجيد الموجود في الكراسي، وله دبوس يشبكه الزائر في أحد المقاعد، فلا يكتشفه أحد إلا مثلا عندما يَبلى الكرسي ويذهب للمنجد، مؤكداً ذلك بوجود سيارة

استقبال تابعة للمخابرات، كانت تقف بالقرب من كوبري الجلاء، على بعد أمتار من بيت المشير، تقوم بإلتقاط ما يدور من أحاديث بين المشير وضيوفه، لتقوم بنقلها في وقت الحديث نفسه إلى جهاز آخر في بيت عبد الناصر يقوم بتسجيلها، لكن عبد الصمد لم يوضح ما إذا كانت رواية شمس بدران، معتمدة على معلومات عرفها من أحد رجاله أو رفاقه الباقين في مناصبهم في الأجهزة الأمنية، أم أن ذلك كان تحليلا توصل إليه شمس خلال فترات تشمّسه في فناء السجن؟

الريس عامر

لتأصيل العلاقة بين الصديقين القديمين ووضعها في سياق أوسع، يعيد عبد الصمد رواية وقائع متواترة وردت في عدة شهادات على العهد الناصري، تؤكد أن عبد الناصر عرض منصب رئيس الجمهورية على عبد الحكيم عامر مرتين: الأولى في أزمة ديسمبر سنة 1962، حين حدثت أول مواجهة بين ناصر وعامر عقب الإنفصال عن سوريا، وقام ناصر باقتراح تشكيل مجلس رئاسي لمواجهة نفوذ عامر، فأعلن عامر استقالته وتضامن معه عدد من كبار قادة الجيش، لتحدث وقتها أزمة حادة دفعت ناصر إلى التراجع عن رغبته في مواجهة عامر، وهو ما دعم نفوذ عامر في البلاد، وهو بالطبع ما لا يشير إليه عبد الصمد، الذي يفضل أن يعتمد طيلة الوقت نظرية (المشير المغلوب على أمره).

كانت المرة الثانية التي عرض فيها ناصر على عامر رئاسة الجمهورية في عام 1965 تقريباً، حين وافق مجلس الرئاسة بأغلبية ستة أصوات، على سحب معظم اختصاصات عبد الحكيم عامر في الجيش، فألقى عامر جدول أعمال مجلس الرئاسة على طاولة الإجتماع، وانصرف إلى بيته ليرسل خطاب استقالة مسببة إلى عبد الناصر، حمله إليه شمس الذي لعب دور الوسيط بين الإثنين، وبعدها تظاهر أنصار عامر في الجيش مطالبين بعودته والاستجابة لمطالبه، التي يقول عبد الصمد أنها كانت: "تغيير أسلوب الحكم وقيام مجلس نيابي يضع الدستور الدائم ويحاسب الحكومة وقيام معارضة داخل الاتحاد الاشتراكي ومجلس الأمة"، وعندما طالت المفاوضات بين الإثنين، بقي جمال عبد الناصر معتكفاً في منزله، بعد أن أبلغ عامر أنه سيستقيل أيضا ويتنازل له عن رئاسة الجمهورية ويحتفظ برئاسة التنظيم السياسي، وهو ما سبق أن قاله في المرة الأولى التي عرض فيها منصب الرئيس على عامر.

في هذا السياق، وبعيداً عن شهادة عبد الصمد، كان حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة المثير للجدل، قد قال في شهادته على ثورة يوليو، التي أدلى بها في أكثر من برنامج تلفزيوني قبل وفاته، أنه لم ير عبد الناصر أبدا في حياته، بمثل ذلك التردد الذي ظهر به في مواجهة عامر ومطالبه في ذلك الوقت، لأنه أخذ يحسب عدد القيادات الموالية لعامر داخل الجيش،

ويقول حسين الشافعي إنه بعد ذلك الإجتماع العاصف، كتب رسالة إلى عبد الناصر يلومه بقوة على عجزه عن مواجهة عبد الحكيم، الذي يجب عزله فورا برغم حب عبد الناصر له، مخبرا عبد الناصر أنه سيندم على ضعفه في مواجهة عامر، لكن عبد الناصر لم يعلق على الرسالة بل قال للشافعي بعدها: "ممكن ألاقيك في يوم بتوزع الرسالة دي على إنها منشور"، فأقسم له حسين الشافعي أنه لا يحتفظ بنسخة منها، ويروي الشافعي أن خالد عبد الناصر قال له أنه وجد الرسالة في خزنة والده بعد موته، وهو ما يعلق عليه حسين الشافعي قائلاً: "يا ليت عبد الناصر إعتبر بها بدلا من وضعها في خزنته".

المثير للاهتمام أن عامر كما يروي عبد الصمد، لم يأمن لعرض عبد الناصر، بترك منصب الرئيس له عام 1962، فقال للمقربين منه إن جمال يستحيل أن يتنازل عن أي شئ حصل عليه، وأنه سيضع نظام الحكم بحيث يكون عبد الحكيم مجرد لافتة ومنظرة يستقبل ويودع رؤساء الدول في المطار، بينما يقوم جمال بدور مؤثر ومحوري كالذي كان يقوم به بريجنيف في الاتحاد السوفيتي إن لم يكن دوره سيكون أكبر وأوسع، وقال عامر لمن حوله بصراحة أنه لا وجود له بجوار جمال، إذا تم إبعاده عن الجيش، وكان هذا هو سبب رفضه للعرض الذي كرره عبد الناصر في عام 1965 عندما أعلن أنه يريد التفرغ لمهمة استكمال بناء التنظيم السياسي، ومع أن حسين الشافعي يؤكد في شهادته أنه قال لعبد الناصر في رسالته إليه إن الجيش يحبه ولن يقف أبدا مع عامر ضده، إذا أصر على مواجهته، لكن ربما كان عبد الحكيم عامر، بحكم معرفته الوثيقة بصديقه جمال، يدرك أنه ليس جاداً في ذلك العرض، وبالطبع كان عبد الناصر سيحسن إلى مصر وإلى نفسه، لو قرر أن يترك موقعه، ليس ليورثه لصديق عمره، بل ليترك للشعب اختيار حاكمه بحرية تامة، لكن لا يوجد ما يؤكد أنه كان جاداً في ذلك العرض بالفعل؟ ولا يوجد ما ينفي بشكل قاطع ظن عبد الحكيم عامر أن عرض ناصر كان مجرد مناورة يهدف منها إلى الإنفراد بحكم البلاد دون شركاء أو رفاق سلاح.

الهجرة والمعركة

يعود عبد الصمد ثانية إلى وقائع ما جرى بعد هزيمة يونيو، حيث يكشف واقعة خطيرة حدثت بعد عودة المشير من المنيا إلى القاهرةـ وخضوعه لإقامة شبه جبرية في منزله، مفادها أن المشير عامر "طقّت في دماغه" ذات يوم، ربما بحكم الضغوط العصبية التي كان يعانيها، فقرر أن يقابل عبد الناصر ليفاجئه بأنه قرر السفر إلى إيطاليا بصحبة شمس بدران، قائلا له إنهما سيبقيان هناك إلى أجل غير مسمى، وبالتالي على عبد الناصر أن يعتبر أن الأزمة انتهت وأن عليه "ألا يخاف منهما"، وهو تعبير لم يفسره لنا عبد الصمد باستفاضة، كما لم يقل لنا عبد الصمد لماذا قرر المشير اختيار إيطاليا التي كانت المكان الذي قضى فيه الملك المخلوع فاروق آخر أيامه؟

المهم أن عبد الحكيم ذهب بالفعل، وقابل عبد الناصر الذي فوجئ بقرار صديقه، وكما يروي عامر لعبد الصمد ورفاقه فإنه يعتقد أن عبد الناصر أخفى سعادته بالقرار، وعاتب عامر على إتخاذه فيما يشبه "عزومة المراكبية" ـ طبقا لوصف عامر الذي يعني بالعامية المصرية عدم الجدية في الحديث ـ لكن عبد الناصر لم يعلن رفضه القاطع للقرار، ففهم عامر أنه يستطيع تنفيذ قراره، وبعد أن أعد عامر عدته للسفر هو وشمس إلى بلاد الطلاينة، فوجئ بمكالمة تليفونية من جمال بعد أيام من لقائهما، يقول فيها جمال إنه لا يوافق على سفره إلي إيطاليا في هذه الظروف، وأنه يقترح عليه السفر إلى يوغوسلافيا حتى تتحسن الظروف. وهنا يروي عبد الصمد أن عبد الحكيم لم يستطع التحكم في أعصابه التي أفلتت على آخرها، بعد ما قاله له

جمال، فوجه لجمال ألفاظا عنيفة جداًـ يصفها عبد الصمد الذي حضر المكالمة بأنها "أعنف مما كنت أتصور للغة كبار السياسيين"، حيث قال عامر لناصر: "يعني كمان حاسيب مصر بلدي وبلد أبويا وأجدادي، ومش عاجبك وعايز تحدد إقامتي عند تيتو بتاعك؟ طيب ما الأحسن تقول لي عيش في سيبيريا، أنا مش مسافر وحاتحداك لآخر نفس في حياتي وأنا أعزل وانت بكل سلطاتك وقواك"، ثم أغلق عبد الحكيم سماعة التليفون في وجه عبد الناصر. وربما كانت هذه المكالمة هي التي حسمت قرار عبد الناصر بأنه لا فائدة من بقاء الوضع على ماهو عليه، وأنه آن الأوان للتخلص من صديق عمره الذي أصبح عثرة في طريقه، وهو ما حدث بالفعل حيث تصاعدت نذر المواجهة بعد تلك المكالمة،حيث بدأ يظهر في منزل المشير عامر من أسماهم عبد الصمد بـ "حرس الجلاليب"، الذين تلقوا تدريبات على المواجهة العسكرية أقامها لهم جلال هريدي أحد كبار ضباط الصاعقة الموالين للمشير، وبدأت وفود من الصعيد تزور المشير ليزيد ذلك من غضب عبد الناصر.

كان جلال هريدي بالمناسبة واحداً من أبرز أسباب التوتر بين عبد الناصر وعامر، إذ أنه قال لعامر بعد قرار الانفصال عن سوريا ـ وكان عامر موجوداً في سوريا وقتها ـ عبارة نصها "هو اللي يعملها في كل مرة وإحنا نشيلها"، ووصلت تلك العبارة إلى عبد الناصر عبر أولاد الحلال من الخباصين والوشاة وما أكثرهم حول ضباط يوليو، فاعتبرها ناصر موقفاً يوافق عليه عامر، وليس مجرد كلمات غاضبة قالها أحد المقربين إليه، وثارت مناقشة حادة بينه وبين عامر، حين قال جمال إنه قرر إحالة جلال هريدي على المعاش وتقديمه إلى المحاكمة، فغضب عامر وهدد بالاستقالة والعودة إلى بلده أسطال، فغضب جمال وقال له: "أنا ما أقبلش إنك تفرض رأيك أو تهدد بالاستقالة"، فجاء رد عبد الحكيم أعجب، إذ قال له: "وأنا كما ما أقبلش أناقشك وأنا ضارب تعظيم سلام.. مش كفاية بتوري الناس إني موظف عندك"، وعندما استغرب عبد الناصر تلك العبارة، ذكّره عبد الحكيم بأنه لم يكن في استقباله عند عودته سالما من دمشق، كما يليق برفاق سلاح وأصدقاء، خاصة أنه كان يعلم بأنه تعرض للخطر أثناء وجوده في سوريا عقب الانفصال، ثم واصل قائلا أنه "بلع تلك الحركة" لأنه توقع أن يكون عبد الناصر متعبا بسبب تداعيات الانفصال، كما اعترض عامر على تلقيه طلبا بالتوقيع على سجل التشريفات في الرئاسة قبل أن يعود إلى بيته، وحين قال له عبد الناصر: "ما تنساش إن ده حكم البروتوكول"، ثار عامر أكثر وقال له: "البروتوكول ده كلام يقوله رئيس دولة كان أصله ولي عهد؟.. بروتوكول إيه؟ إحنا ناس ثوريين، إنت خلاص بقيت تنام وتصحي بالبدلة الرسمي، مافيش فايدة في علاقتنا، أنا مش قادر أنسى البكباشي جمال عبد الناصر"، لينتهي ذلك الحوار العنيف والدالّ، بسحب عبد الناصر لقراره بمحاكمة جلال هريدي، مكتفياً بحل وسط هو إحالته إلى الإستيداع، ليعانده عبد الحكيم عامر، ويعيده إلى الخدمة، ليتدرج في الترقية، حتى أصبح قائدا للصاعقة، ومعبرا عن فشل عبد الناصر في محاسبة ضابط، في الوقت الذي كان يهز العالم العربي بأكمله بخطاباته النارية.

بعد وقوع الهزيمة، اشتعلت الأزمة بين ناصر وعامر أكثر بسبب جلال هريدي وعدد من الضباط الموالين لعبد الحكيم، مثل عثمان نصار الذي كان وراء تعارف ناصر بعامر قبل الثورة، وحسين مختار وحمزة البسيوني صاحب السجل الإجرامي الشهير في التعذيب، حيث رفض المشير طلبات عبد الناصر المتكررة بتسليمهم إليه، واعتبر طلبات عبد الناصر تلك إهانة له، وعندما حاول بعض الضباط اعتقال جلال هريدي، تحول الأمر إلى معركة كبيرة بالرصاص في قلب القاهرة، بل وقام جلال باختطاف ضابطي مباحث عامة كانا يراقبان بيت المشير، وسلمهما للمشير الذي اتصل بوزير الداخلية شعراوي جمعة وهزّأه، وتدخل محمد حسنين هيكل لتهدئة الأزمة، بعد أن سمع طلقات الرصاص التي كانت قريبة من بيته، فذهب فوراً إلى بيت المشير الذي قال لهيكل طبقا لرواية عبد الصمد: "قول لجمال بطل الصغائر والتفت لشغلك، هو خلاص ساب كل الدنيا ومش تاعبه غير عبد الحكيم واعتقال جلال هريدي".

وبعد أن انصرف هيكل من منزل عبد الحكيم، يروي عبد الصمد أن جمال سالم عضو مجلس قيادة الثورة ـ الذي كان عبد الناصر قد قام بتنحيته عن المسئولية قبل فترة من الهزيمة بسبب اشتباكاته اللفظية الدائمة مع عبد الناصر ـ جاء يومها لزيارة عبد الحكيم، وقام بلومه لأنه ترك عبد الناصر يأكل رفاقه في مجلس قيادة الثورة واحدا تلو الآخر، مذكراً عامر بأنه كان قد حذره بأن الدور سيكون عليه عاجلا أو آجلا لكنه لم يسمع، ونصحه جمال سالم بالتوبة والعودة إلى رحاب الله، مثلما فعل هو من قبل بعد تنحيته عن المسئولية، حيث "عكف على العبادة وحفظ القرآن، وتفسير بعض أجزائه والبحث عن الألم لتطهير آثامه" طبقا لنص ما قاله، راوياً لعامر أنه عندما أصيب بخراج في ذراعه، رفض أن يعطيه الطبيب أي "بنج"، وأصر على فتح الخراج "وهو صاحي" لكي تطهر تلك الآلام بعضاً من خطاياه!

....

(غداً الحلقة الرابعة والأخيرة من شهادة عبد الصمد محمد عبد الصمد: أين اختفت مذكرات المشير عامر عن حرب يونيو التي أعطاها لمحمد حسنين هيكل قبل مصرعه ـ عبد الصمد يكشف أخيرا السر الخطير الذي أخفاه عن قارئ مذكراته منذ بدايتها وحتى النهاية)

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.