عبث البحث عن معنى للقمع

02 ديسمبر 2019
+ الخط -

في كثير من المسلسلات والأفلام التي تحكي عن قصص القتلة التسلسليين ستجد تلك التفصيلة: محقق مخضرم يطارد منذ سنين قاتلاً تسلسلسياً ولكن دون جدوى، فجأة تختفي جرائم القتل المتشابهة التي توحي بفاعل واحد، ويبدو للمحقق أن القاتل تعرض لحادث ما أعاقه عن تكرار جرائمه، أو ربما خاف من تكرارها، أو ربما فشل في تكرارها لسبب أو آخرـ لن تجد محققاً حصيفاً يفترض أن القتلة المتسلسلين يتوبون ـ وبعد فترة تطول أو تقصر تحدث جريمة قتل جديدة، يكتشف المحقق في ثناياها تفصيلة ما، تفصيلة تافهة جداً في الغالب، تذكره بأسلوب القاتل الذي غاب لفترة، ومع أن تكرار القتل من جديد يزعجه، إلا أنه يعطيه الأمل في إمكانية القبض على القاتل الذي عاد من جديد لتكرار جرائمه، دون أن يجزم هل قرر القاتل وضع لمسته القديمة على الجريمة الجديدة لكي يعلن حضوره لمن يطارده؟ أم أنه لم يكن يقصد ذلك وكل ما هنالك أن الطبع يغلب التطبع؟

فكرت في ذلك حين قرأت أن الجهة الأمنية التي قامت مؤخراً بمداهمة منزل الصديق العزيز شادي زلط الصحافي بموقع (مدى مصر) وخطفته من بيته دون أي إجراء قانوني، قررت فجأة أن تخلي سبيله فتركته على أحد الطرق السريعة، بعد فترة وجيزة من الإفراج عن زملائه لينا عطا الله ومحمد حمامة ورنا ممدوح، الذين كان قد تم القبض عليهم من مقر الموقع، عقاباً للموقع على نشره قصة خبرية عن استبعاد محمود نجل عبد الفتاح السيسي من إدارة بعض الملفات الأمنية والسياسية التي كلفها به والده، ونقله ليعمل في العاصمة الروسية، بناءً على نصيحة من حكام دولة الإمارات حليف السيسي الأبرز، وهو ما رآه البعض تأهيلاً له لخلافة أبيه في المستقبل، خاصة مع ما لا يخفى من غرام السيسي بنموذج فلاديمير بوتين في الحكم والسيطرة.

كان تقليد خطف المواطنين من منازلهم أو مقار عملهم ثم رميهم بعد فترة على الطرق السريعة أمراً شائعاً في عهد مبارك، لكنه اختفى بشكل ملحوظ في عهد السيسي، ليس لأن نظام السيسي قرر الالتزام بالدستور والقانون، بل لأن نسبة بجاحته وتجبره فاقت الحدود، فلم يعد يفرج عن أحد ممن يعتقله، لا في الخلاء ولا في العمار، وإذا كان عليك أن تتوقع وجود شخص ما على الطرق السريعة، فعليك أن تتوقعه جثة هامدة، مثل ما حدث للباحث الإيطالي جوليو ريجيني، أو للمواطنين الخمسة الذين قامت الداخلية بتصفيتهم بتهمة أنهم قتلوا ريجيني.

وحين يُعلن الإفراج عن مسجون أنهى مدة حكمه، أو معتقل لم يعد لاعتقاله لازمة، تقوم داخلية السيسي بإذلال أسرته ويفرج عنه بعد تلفيفه "كعب داير" على العديد من أقسم الشرطة، ولذلك حين جرت حركة ترك شادي زلط على الطريق السريع، شعرت أن هذه الحركة مرتبطة بأحد المجرمين المخضرمين في جهاز أمن الدولة الذي أصبحوا يدلعونه باسم "الأمن الوطني"، والذين زاد اعتماد السيسي عليهم في الشهور الأخيرة، بعد فشل ابنه وصديقه عباس كامل في التعامل مع مفاجأة المقاول محمد علي التي لم تكن على بالهم، والتي أدت إلى خروج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، وهو ما جعل السيسي يسحب ملف التعامل مع المعارضة من عهدة المخابرات العامة، ويعطي العيش لخبازيه من جلادي أمن الدولة، الذين لم أعرف هل قرر أحدهم ترك شادي زلط في الطريق السريع، من باب إعلان وجوده وتذكير الجميع بما مضى، أم أن ذلك القرار حصل بسبب الارتباك الذي أحدثته ردود الأفعال الدولية سياسياً وإعلامياً عقب اقتحام المقر الذي كان يوجد به لحسن الحظ عدد من الصحفيين الأجانب، كانوا يقومون بتغطية اعتقال صحفي زلط، وأدت التداعيات المرتبطة بوجودهم إلى إنقاذه هو وزملائه، ولذلك ربما قرر الضابط الذي خطفه أن يتركه على الطريق السريع، لأن الإفراج عنه من مقر شرطة رسمي، ربما يقوم بتعقيد الأمور بشكل أو بآخر.

لا زلت أذكر أول مرة استمعت فيها في طفولتي إلى مصطلح "التسريب"، حيث كان ذلك المصطلح وظل مرتبطاً بالقطط، قبل أن يرتبط في السنوات الأخيرة بالتسجيلات والأسرار التي تلاقي طريقها إلى الصحافة والإعلام، كان طقس التسريب يعني أن يقوم الراغب في التخلص من قطة يربيها لسبب أو لآخر باصطحابها إلى مكان بعيد جداً عن البيت الذي عاشت فيه، ويقوم بتركها هناك ليتخلص من مسئوليتها، وكنا نسمع بانبهار القصص التي تحكي عن عودة القطط دائماً إلى موطنها الأصلي، مهما تم تسريبها بعيداً، ويبدو أن تلك القصص كانت مؤثرة على تفكير أول ضابط أمن دولة قرر اتباع تكنيك تسريب القطط مع المعارضين، لست متأكداً ما إذا كانت أول مرة يحدث فيها ذلك، هي تلك التي تم فيها إلقاء المناضل والكاتب الدكتور عبد الحليم قنديل في طريق مهجور بالمقطم بعد ضربه وتعريته، لست أذكر تاريخ الواقعة بالضبط، لكني أتذكر أنني كتبت عنها في عام 2005، حين كان الدكتور عبد الحليم قنديل واحداً من أبرز مناهضي الاستبداد والظلم، قبل أن تدور الدنيا ويتحول إلى أحد مبرريه، رد الله غربته وأحسن ختامنا وختامه.

أذكر أنني كتبت بعدها عن واقعة مشابهة حدثت لأحد نواب الإخوان في محافظة كفر الشيخ حصلت عام 2007، وكتبت في المرتين ساخراً بمرارة مما جرى، لكن نسبة السخرية تضاءلت وزادت نسبة المرارة، حين جرت نفس الواقعة مع المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري في عام 2009، حين خطفته قوات الأمن من قلب مظاهرة لحركة كفاية أقيمت في وسط القاهرة، ثم تم رميه على الطريق الدائري بالقرب من التجمع الخامس قبل أن ينتشر العمران فيه، ولم يمنعهم من ذلك أنه رجل مسنّ ومصاب بمرض السرطان ويخضع للعلاج الكيماوي الذي يصيبه بإرهاق وضعف شديدين، وأن ما فعلوه يمكن أن يودي بحياته، أو لعلهم فعلوا ذلك لكي يودي ما فعلوه بحياته.

كتبت بعدها أن من بشائر الإصلاح السياسي التي وعد بها حسني مبارك ونجله جمال، هو أن يتم تسريب المعارضين مثل القطط، وحين التقيت بالدكتور عبد الوهاب في عشاء دعتنا إليه الدكتورة منار الشوربجي، أخذ يشرح لزوجته الدكتورة هدى حجازي طقس تسريب القطط، ثم قال لنا إنه بعد أن أنزلوه من سيارة الشرطة في ذلك الطريق الصحراوي المقفر، تصور على الفور أنهم راغبون في تصفيته، واستغرب أن يقوموا بضربه بالرصاص في وضح النهار، وبعد أن ابتعدت السيارة التي أنزلته وتأخر ما كان ينتظره، لم يفهم ما حدث، وحين قرأ ما كتبته، وجد أن التفسير المنطقي الوحيد لما حدث معه، هو أنهم ظنوا أنه سيتوه ولن يستطيع الرجوع إلى بيته ثانية، لكنه أثبت لهم أن ذكاءه مرتفع مثل ذكاء القطط.

لا أدري هل يمكن أن نتعامل مع طريقة الإفراج عن شادي زلط بطريقة التسريب، بوصفها بشارة للعودة إلى الماضي المباركي، الذي كانت همومه تضحكنا وتبكينا، عكس هموم اليوم التي لم تعد مضحكة على الإطلاق، دعونا نأمل أن يحدث ذلك لجميع المعتقلين والمختفين قسرياً، ولا أظن أن أحداً سيمانع في تركهم على الطرق فجأة، ولن يفكر في مسائلة أحد عما جرى لهم ولا أين اختفوا، ولن يأتي أحد بسيرة الدستور والقانون، فقد عرف الجميع ما فيها، وأدركوا عبثية الاعتراض على التبجح في الظلم، وأتمنى لو كان وراء حركة الإفراج عن شادي زلط بتلك الطريقة، ضابط أمن دولة مخضرم، أن يرفع تقريراً لقيادته لتقوم برفعه إلى السيسي، تنبهه إلى ما يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي في مديح حسني مبارك وزوجته سوزان ونجليهما، لعله يدرك أنه "مزوّدها من غير داعي"، فإذا كان تذكر الناس لمشروع تباع فيه الكتب بسعر مدعّم، جعلهم ينسون نهب من أنشأته لأموال البلد، فلماذا لا يعتبر السيسي من ذلك، ويعيد البلد إلى أيام مبارك، حيث يشكو الناس من رجاله إليه، وحيث يصبح هو الذي فيه الخصام وهو الخصم والحكم، وأؤكد له أنه سيندهش من أداء غالبية المثقفين والإعلاميين والفنانين، لو قام بتخفيف قبضته على الصحافة والإعلام والفنون، وترك لهم حرية أن يعزفوا نغمة "هو الريس كويس بس اللي حواليه وحشين".

أعلم أن هذه الأمنيات لن تتحقق، وقد كتبت في ذلك أكثر من مرة مجيباً على تلك التساؤلات الحائرة التي يحاول فيها بعض حسني النوايا البحث عن معنى لذلك القمع الأهوج والعشوائي الذي يمارسه النظام دون أن يكون في حاجة إليه، مع أن كون ذلك القمع عشوائياً وأهوج هو بالضبط المعنى الذي يحتاجه النظام، لكي يفرض حالة من الخوف المصحوب بعدم الفهم، وهو أصعب أنواع الخوف وأشدها فتكاً بالنفوس، وهو في نهاية المطاف تعبير عن خوف مقابل من الشعب، يسكن قلب وعقل رأس نظام السيسي، الذي يدرك أنه بنى شرعية نظامه على مذبحة، ولذلك فهو لا يمتلك رفاهية المخاطرة بتخفيف قبضته عن البلد، وإذا كان البعض يعتقد أن حكاية الدماء التي تظل ظاهرة على يد القاتل، لا تغيب عنه أبداً حتى لو لم يرها غيره، ولا تزيل رائحتها كل عطور بلاد العرب، هي افتكاسة شكسبيرية حدودها مسرحية (ماكبث)، فعليه أن يراجع كل قرارات السيسي ويتأملها، وسيجد تلك الحكاية مرتبطة بتلك القرارات، وسيدرك أن السيسي يرى الواقع بشكل مختلف حتى عن مؤيديه وألاضيشه ودلاديله، يراه مختلطاً بالدماء، ولذلك فهو لا ينساه، وإذا كان حسني مبارك نفسه قد أصبح يتذكر نومه في قفص الاتهام بوصفه "فصل بايخ وراح لحاله"، فالسيسي يرى ذلك المشهد كابوساً ممكن التكرار، ولذلك لا تفارق سيرة يناير 2011 لسانه وباله، حتى بعد أن غابت عن ألسنة الكثيرين ممن شاركوا فيها.

المحزن والمقرف أن هناك أناساً كنا نحبهم ونحترمهم، لا زالوا يكابرون في الاعتراف بحقيقة أن كل ما ارتكبه السيسي من جرائم، لم يكن مرتبطاً كما كانوا يقولون بمشروع بناء دولة وطنية قوية وشامخة، ولذلك يستحق الأمر القبول بما جرى من جرائم، ولا زالوا يصرون على إنكار أن كل ما تم دفعه من أثمان باهظة كان مرتبطاً بمصالح شخصية للسيسي وأسرته ومعاونيه في الجيش والشرطة والقضاء، وأنه لم يكن هناك أبداً أي مشروع وطني، سوى الرهان على أحلام وهلاوس وضلالات تبدأ في منامات القائد وتنتهي بها، كثير من هؤلاء للأسف، لم يقرر حتى الآن التراجع ولو بالصمت، بل لا زال مستمراً على التبرير والكذب والإنكار، على أمل أن ينجح السيسي في تحقيق إنجاز ما، فلا يصبح تأييدهم لكل ذلك القتل على الفاضي.

أعرف أن كثيرين منهم يقولون لأنفسهم: "طيب لنفرض أنه فشل في تحقيق ما وعد به، وأنه غار في داهية بشكل أو بآخر، ما الذي سيحدث لنا؟ لا شيئ، لن يحاسبنا أحد على ما قمنا به من دعم للقتل والقمع، سيأتي بعد السيسي حاكم يرفع شعار المصالحة الوطنية، وسنلتقي مع ضحايا الأمس في مراسم العمرة والحج وموائد إفطار الوحدة الوطنية، لنأخذ بعضنا بالأحضان، وسنكتب روايات تدين قمع نظام السيسي، وستتحول تلك الروايات إلى أفلام ومسلسلات يصنعها النجوم الذين تدلهوا في حب السيسي من قبل، ألم يحدث ذلك من قبل في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك؟ فلماذا لا يحدث بعد عهد السيسي؟ ومن قال لك إنه سيكون هناك يوماً محاسبة حقيقية وسعي لعدالة شاملة؟".

لن أكذب عليك، ربما كان هؤلاء محقين في تصورهم أن هذا ما سيحدث بعد أن ينتهي عهد السيسي، لكنهم سيكتشفون أن ذلك إن حدث لن يحل مشاكل البلد، ولن يقدمها خطوة إلى الأمام، بل ستواصل الرجوع إلى الوراء، وستظل موعودة بانفجار جديد قد يكون أقسى وأكثر دموية، ومن لم يدرك ذلك بعد ما يجري الآن في السودان والعراق ولبنان وتشيلي والجزائر والإكوادر وبوليفيا وفنزويلا وغيرها من الدول التي لم ينجح فيها فرض الأمر الواقع والحل النهائي، فعليه أن يهنئ نفسه على ذكائه الخارق الذي يجعله يظن أن هناك دولة يمكن أن ينصلح حالها، لأنها حين تكون رحيمة وعادلة، لا ترمي جثث معارضيها على الطرق السريعة، بل تكتفي بتسريبهم مثل القطط.

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.