"هيعمل إيه التعليم في وطن منهوب؟"

26 اغسطس 2018
+ الخط -

يدرك ها جوون تشانج الباحث الكوري المتخصص في اقتصاد التنمية أنه يخوض في حقل ألغام، حين يقوم بتفنيد الوهم الشائع بين الملايين والذي يزعم ارتباط التعليم بالرخاء الاقتصادي، فيسارع إلى التأكيد على أهمية التعليم لتمكين الناس من عيش حياة أكثر إشباعاً واستقلالية، لكنه يستدرك قائلاً إن الأدلة تثبت أن ما يهم في تحقيق الرخاء الاقتصادي للشعوب ليس المستويات التعليمية للأفراد، وإنما قدرة الدولة على تنظيم الأفراد في مشاريع استثمارية ذات إنتاجية أعلى، ولذلك فإن أي مستوى تعليمي مرتفع مع وجود الفساد وانعدام الكفاءة الإدارية لن يحقق أي رخاء ولا تنمية.

يدرس تشانج ـ في كتابه الذي بدأنا قراءته الأسبوع الماضي ـ حال الاقتصادات الشرق الآسيوية التي يرجع الكثيرون سبب إعجازها الاقتصادي إلى انتشار التعليم وجودته، فيكشف أن هذه أسطورة خاطئة، لأن اقتصادات تلك البلاد لم تتمتع بإنجاز تعليمي مرتفع بشكل غير اعتيادي في بداية معجزتها الاقتصادية، بينما أدت بلدان كان سكانها أفضل تعليماً مثل الفلبين والأرجنتين أداءً اقتصادياً هزيلاً، ففي حين بلغ معدل القدرة على القراءة في تايوان 54% فقط في عام 1960 وبلغ في الفلبين 72% فقد أنجزت تايوان في ذلك الوقت أحد أفضل أداءات النمو الاقتصادي في التاريخ، على عكس أداء الفلبين البائس في الوقت نفسه. وفي حين كان الفرد الفلبيني في عام 1960 يتمتع بضعف دخل الفرد التايواني تقريبا (220 دولار مقابل 122 دولار)، بلغ دخل الفرد في تايوان في 2010 حوالي عشرة أضعاف دخل الفرد في الفلبين (18 ألف دولار مقابل 1800 دولار)، في عام 1960 أيضاً بلغ معدل القدرة على القراءة في كوريا الجنوبية 71% لكنه ظل أقل من معدل الأرجنتين البالغ 91% ومع ذلك فقد نمت كوريا بشكل أسرع من الأرجنتين، حتى أصبح دخل الفرد الكوري في 2010 أعلى ثلاث مرات من الفرد الأرجنتيني (حوالي 21 ألف دولار مقابل 7 آلاف دولار).

ولكي يوسع الكاتب زاوية رؤيته التي تحتاج إلى تأنٍ في قراءتها لكي لا توصل إلى استنتاجات خاطئة تعتبره معادياً للعلم أو معارضاً لحق الجميع في نظام يكفل تكافؤ الفرص التعليمية، يشير إلى سويسرا التي تعتبر من أوائل البلدان الأغنى وذات التحول الصناعي الأكمل في العالم، لكن لديها في الوقت نفسه معدل الانتظام الجامعي الأدنى وبمراحل في العالم الغني، لأن نظامها التعليمي ليس مشغولاً كغيره بوظيفة الفرز الاجتماعي، ولا بتأكيد مركز كل فرد في هرم التأهيل الوظيفي، بل انشغل بما هو أهم وأجدى، وهو تغذية الذكاء العام والانضباط والقدرة على تنظيم الذات والمواطنة الصالحة، وكلها أمور لها عائد أفضل من الانشغال بمهارات متخصصة يمكن أن تقوم بمنحها دورات دراسية متخصصة قبل الحصول على الوظيفة وأثناء ممارستها. وهو ما لم يحدث في بلدان "متقدمة" مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وغيرها، أصبح نظام التعليم الجامعي فيها ضائعاً ومُبدّداً في لعبة الفرز التي تلغي خسائرها مكاسبها، فصار كما يقول تشانج يشبه مسرحاً قرر فيه بعض الناس أن يقفوا للحصول على مشاهدة أفضل فيدفعون آخرين خلفهم للوقوف، وما إن يقف عدد معين من الناس يتعين على الجميع الوقوف، وهو ما يعني أن أحداً لا يحصل على مشاهدة أفضل، بينما صار الجميع أقل ارتياحاً، وهو ما ستجد تأييداً له في الكثير من الدراسات والمقالات والأفلام التسجيلية التي تكشف مآسي التجارة بالتعليم وتدميرها لحياة الكثيرين.

من المهم التأكيد لأعداء تكافؤ الفرص وكارهي حق الفقراء في التعليم وما أكثرهم في بلادنا المنكوبة، أن ما يقوله ها جوون تشانج، لا علاقة له بالتعليم الأساسي الذي يؤدي تطويره إلى ارتقاء المجتمع وجعله أكثر عدالة، بل ينصب على نقد نظام التعليم العالي، الذي يرى أن هوس البلدان الغنية به يتعين ترويضه، لأنه قاد إلى تضخم غير صحي للدرجات الجامعية وإفراط استثماري ضخم، وهو ما تحاول الدول الفقيرة مجاراته عبثاً، مع أنها بحاجة إلى إعارة مزيد من الاهتمام إلى بناء المؤسسات السليمة من أجل نمو الإنتاجية، بعيداً عن سيادة الفساد والمحسوبية وانعدام الكفاءة، لأن ما يميز البلدان الغنية عن البلدان الأفقر، ليس مدى حسن تعليم مواطنيها، بقدر ما هو مدى حسن تنظيم مواطنيها في كيانات جماعية ذات إنتاجية عالية، وهو ما لن يتحقق إلا في ظل وجود نظام يحمي المؤسسات التجارية في الصناعات الناشئة، ونظام مالي يوفر رأس المال الصبور اللازم من أجل استثمارات تعزيز الإنتاجية طويلة المدى ومؤسسات توفر فرصاً آنية لكل من الرأسماليين والعمال، ودعوم عامة وضوابط بخصوص البحث والتطوير والتدريب.

في نفس السياق يشير تشانج إلى وهم شديد التأثير على بلادنا "المحمية بالحرامية" على رأي أحمد فؤاد نجم، وهو الاعتقاد الحكومي والشعبي بأن السياسة الاقتصادية الجيدة يصنعها بالضرورة اقتصاديون جيدون، مع أن البيروقراطيين الاقتصاديين الذين كانوا الأنجح، لم يكونوا في العادة علماء اقتصاد، فقد كان المحامون مثلاً هم من يسيرون السياسات الاقتصادية في اليابان وإلى حد أقل في كوريا خلال سنواتهما الإعجازية، وفي تايوان والصين كان يسيرها المهندسون، فالمطلوب توفره كما يؤكد تشانج فيمن يسيرون السياسة الاقتصادية هو الذكاء العام لا المعرفة الاقتصادية المتخصصة، لأن الاقتصاد الذي يدرس في الجامعات منفصل عن الواقع إلى درجة لا يصلح معها للاستخدام العملي.

ومع الاعتذار لأصدقائي من خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، يشير تشانج إلى مقولة طريفة للاقتصادي جون كينيث جالبرث ترى أن علم الاقتصاد مفيد للغاية كشكل من أشكال تشغيل الاقتصاديين، معتبراً أنه لم يبالغ في مقولته، مستشهداً بالدور الذي لعبه الاقتصاديون في خلق الظروف المهيئة لأزمة 2008 التي ظهر الكتاب بعد عامين منها، وعشرات الأزمات المالية الصغيرة التي سبقتها منذ بواكير الثمانينات، وضغطوا لتمرير سياسات أضعفت فرص النجاح المستقبلية للتنمية طويلة المدى في البلدان النامية، وشجعوا الناس في البلدان الغنية على المبالغة في تقدير قدرة التقنيات الجديدة، فكان ضرر الاقتصاد في العقود الثلاثة الماضية بيناً على معظم الناس، ومع ذلك لا يمكن تجاهل وجود اقتصاديين لا يعتنقون مبدأ حرية السوق، لديهم ما يعلمونه للناس عن الأنواع الصحيحة من الاقتصاد، ولذلك تتعرض رؤاهم للتجاهل والنسيان.

في ختام كتابه يؤكد تشانج على أهمية بناء نظام اقتصادي يخرج من الناس أفضل ما فيهم لا أسوأ ما فيهم، لكنه في الوقت نفسه يعترف أن العقلانية البشرية محدودة بشكل قاسٍ، نظام يؤخذ فيه الإثراء المالي على محمل الجد لكنه لا يصبح الهدف الوحيد، ويأخذ صنع الأشياء المادية بجدية أكبر لأن القطاع التصنيعي يظل حيوياً، مهما تضاعفت أساطير اقتصاد المعرفة ما بعد الصناعي، نظام يقيم توازناً أفضل بين الماليات والأنشطة الحقيقية، فيقلل فجوة السرعة بين الماليات والاقتصاد الحقيقي لتشجيع الاستثمار طويل المدى والنمو الحقيقي، من خلال ضرائب التعامل المالي وفرض القيود على حركة رأس المال العابرة للحدود (وخصوصا انتقالاته إلى داخل البلدان النامية وخارجها) وفرض قيود أكبر على الاندماجات والاستحواذات، بشكل يفيد الاقتصاد الحقيقي، نظام تصبح فيه الحكومة عنصراً جوهرياً في نظام اقتصادي به ديناميكية أكثر واستقرار أكبر ومستويات من الإنصاف مقبولة أكثر، وهو ما يعني بناء دولة رفاه أفضل ونظام ضوابط أفضل على الأخص للماليات وسياسة صناعية أفضل، مع التأكيد على أن تخاذل النظام الاقتصادي العالمي عن تخفيف ظروف المليارات ممن يعانون الفقر وانعدام الأمن، لن يحقق للدول الرأسمالية إلا المزيد من الكوارث التي ستعيق تقدمها الاقتصادي.

ولعلك لو تأملت الحلول التي يقترحها ها جوون تشانج بوصفه مدافعاً عن الرأسمالية ضد من يسيئون استخدامها، تدرك أنها ستجلب له الاتهامات من كثير من أبناء جلدتنا بأنه ليس سوى شيوعي متعفن كاره للأغنياء ومحب للفقراء الذين يرى هؤلاء أن بلادنا لن تتقدم إلا بعد التخلص منهم أو التوقف عن الاهتمام بهم، والمدهش أن كثيراً من هؤلاء لا علاقة لهم بالغنى والنفوذ سوى الأحلام والأماني التي تسكرهم وتذهلهم عن حقيقة أن السياسات الاقتصادية الخرقاء التي يتبعها النظام الحاكم لإرضاء صندوق النقد والبنك الدولي، سيكون هؤلاء من أوائل من يدفع ثمنها غالياً، ولن ينفعهم عندها الإمعان في التهليل للأغنياء، والإفراط في لعن سنسفيل الفقراء، ولا الاستمرار في التعلق بالأوهام.

ـ 23 حقيقة يخفونها عنك بخصوص الرأسمالية ـ ها جوون تشانج ـ ترجمة محمد فتحي كلفت ـ دار بلومزبري مؤسسة قطر للنشر

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.