بعضٌ من الدفء المفيد!

بعضٌ من الدفء المفيد!

01 ديسمبر 2018
+ الخط -

يستأجر الممثل القنصلي الإسرائيلي شقة لإقامته الشخصية في إحدى بنايات رمل الإسكندرية في أواخر الثمانينيات. عمارة كبيرة يسكن غالبية وحداتها عائلات تنتمي للطبقة المتوسطة والعليا. وتحتل الأدوار الأخيرة المطلة على البحر من بُعد شققٌ لبعض أكثر تجار وصناع المدينة ثراءً وقتها. وبالطبع تُؤمَن شقة الإسرائيلي بحراسة مشددة على مدار اليوم، فيحتل المجندون والضباط أماكنهم أمام باب الشقة، وعند مدخل العقار، وفي الكراج والشارع.

وبرغم بعض السِباب والشائعات حول مالك الشقة الذي قام بتأجيرها للإسرائيلي "كده بدون حَيا"، وكذا بعض التساؤلات المشروعة عن غرابة زرع شخص كهذا وسط كتلة سكنية كتلك، وانتشار نظريات جس النبض ومحاولة التودد الشعبي لمصر وما شابهها مما تنتجه قرائحنا عادة في مثل هذه الظروف، فضلاً عن بعض الهمهمات والتبرمات والتعليقات السياسية التي قد يتداولها البوابون أو السُياس أو السكان خِلسة فيما بينهم، فقد بدا الوضع على ثقله هادئا متعقلا بما يليق بـ"السلام الاستراتيجي" إياه والذي كان قد استقر من أيامها، بل ومع الوقت والعِشرة تعاطف غالبية السكان والعاملون مع أطقم الحراسة من العساكر والضباط المصريين على اعتبار كونهم "مننا"، من نفس فصيلة عبد المأمور المغلوب على أمرهم، فتولوهم بالرعاية والمؤانسة والحكايات والشاي وخلافه. وهي فرصة بالطبع للظفر بأي معلومات أو تفاصيل عن حياة الضيف الإسرائيلي وأسباب تشريفه، ما خلق في العموم جوا من الألفة والدفء غير المتوقع حدا بالموظف الإسرائيلي، الذي بدأ إقامته بالتوجس والتحفظ الواجب، للانفتاح قليلا أسوة بطاقم حراسته المصري، فبادر بالتبسم وإلقاء التحيات، وأحياناً ملاطفة هذا أو ذاك من موظفي العمارة أو من السكان أثناء دخوله وخروجه وسط حراسته. ويبدو أن عربيته المكسرة وسحنته الشرق أوروبية وابتسامته المبالغ فيها واستظرافه المتكلف لم تشفع لثقل ظله ولتاريخ دولته لدى الناس، فلم يحصل على ما أغراه من ودٍ واحتواء، والغالب أن نصائح رسمية وصلته بالعودة لتحفظه ولَمّ نفسه حتى لا يعرضها للأذى، ففعل.

ولم تخلُ المرحلة من طرافة وظرف على أية حال. فلم تسلم المصاعد من وضع بعض ملصقات "فلسطين عربية" أو "القدس لنا" من بعض شباب العمال أو السكان، ليجدوا الرد حاضرا برسم النجمة السداسية بعدها بعدة أيام، فتشتعل جدران المصعد بشطب النجمة بنصل حاد يتلف مكانها، ورسم السيفين والنخلة مثلا! أو الهلال والنجمة! أو كتابة اسم سليمان خاطر الذي كانت ذكراه ما زالت ساخنة، ووضع المزيد من الملصقات مشفوعة بـ"الموت لإسرائيل" وبعض الشتائم المعروفة. وغالب الظن أنهم كانوا جميعاً من المصريين ممن لم يجدوا متنفسا لمشاعرهم المكبوتة سوى بتلك الطريقة، فكانت فرصة لكي يتفكهوا ويتسلوا ويسلوا راكبي المصعد الضجرين قبل اختراع الهواتف النقالة.

والحقيقة أن مستوى السخط ورد فعل وجود إسرائيلي رسمي وسط عوام من المصريين كان متواضعا بالنسبة للسياق الزمني وقتها، بالذات مع اعتبار ما كان في ماضٍ قريب من حرب كرامة وصراع طويل. لكن لا يصعب تفسير ذلك مع إقامة الرجل وسط متعلمين أثرياء متوسطي الأعمار وكهول ممن لا تستدرجهم عادةً حمية الشباب، ولا اندفاع وغوغائية العوام من الأقل رتباً اجتماعية. كذلك لا يستهان بتأثير معرفة الكل لدرجة التأمين والتحفز الرسمي التي تحيط بحماية مثل هؤلاء في كبح جماح أية رعونة محتملة، فعادة ما يعمل المخزون الشعبي عن منَ خاف فسِلم، وعن جار السَوء والبلوة التي حتما "حتشيله" بقليل من الصبر بعمل السحر.

ومن المثير للتأمل وللكثير من الابتسام أن الحياة في تصاريفها قد تنصف الضعيف المغلوب على أمره بأقل ميزاته اعتبارا، بل ربما انتصر على غطرسة أعدائه بمساعدة بعض عيوبه الفاضحة!
فالحق أن حالة التسيب والتراخي اللا إرادي التي تصيب أية جهة عمل في مصر بمرور الوقت كانت على الأرجح هي سبب "تطفيش" الضيف العزيز ورحيله قبل انقضاء عقد إيجاره بكثير. إذ يكفي للتدليل على ذلك تذكر كيف كانت إجراءات وأسئلة أفراد الحراسة عن الداخل والخارج وعما يحمله من صناديق أو حقائب تستفز البعض من زائري العقار والمترددين عليه، فيجيبون بردود متهكمة مثل: حيكون إيه يعني؟ ديناميت طبعا!، فيضحك الجميع، ويتبادلون صباحات القشطة والعسل والسجائر، ولا يتم تفتيش شيء احتراما لدفء اللحظة طبعا! فيصعد الأخ حامل صندوق المتفجرات المحتمل بمنتهى الأريحية لتأدية مهمته في سلام! مما أظنه استنفر بالتكرار أهلية الإسرائيلي وجهة عمله، فسحبوه من ذلك الجو الحميمي المقلق خوفا على سلامته!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى