الخابور... ومكتبة "بور سعيد"

18 يناير 2018
+ الخط -
ارتبط اسم أحمد الخابور بمدينة الرَّقة السورية، كما هو حال عبد السلام العُجيلي ومصطفى الحسّون. هو ذاك الرجل الذي أسّس لمكتبة الخابور "بور سعيد" وهجها ومكانتها في فكر وقلب ابن الرَّقة.

مكتبة الخابور، وعلى الرغم من تواضعها وبساطتها، تظل لها ذكريات مفرحة وعبق ماضٍ متجدّد، وتاريخ حافل.

وأوّل ذكرياتنا عنها كانت قبل أكثر من أربعين عاماً عندما كنا أطفالاً صغاراً بعمر الورود، كانت تشدّنا تلك المكتبة برفوفها المتواضعة الحاملة للكتب والحاضنة للصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية التي كانت تزيّن واجهتها. عرفناها منذ ذلك الوقت وعمرها الفعلي قبل ذلك بكثير..!

العودة إلى تلك الأيام الخوالي، يعني أننا نقرأ فيها تاريخ مدينة ومدى ارتباطها بهذه المكتبة، وصاحبها أبو زهرة، وهو الاسم المتداول والمعروف به كصاحب مكتبة لها اسمها وتاريخها ومكانتها لدى النخبة من مثقفي وعاشقي الحرف في "درّة الفرات"، الاسم الذي عرفت به الرَّقة، وعُرف بعد ذلك باسم المهند، نسبة إلى ابنه البكر، الشاعر الشعبي الذي ترك بصمة، وأخذ من أبيه صفات كثيرة تجلت في صوغه الشعر بقالب وأسلوب لافت.


إنَّ مكتبة الخابور كانت محور لقاء يضمّ أكثر المهتمين بالشأن الثقافي وكان من أميز المثقفين الذين يترددون عليها، وطالما جلس بداخلها أو جاء من أجل شراء بعض الصحف والمجلات، الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي رحمه الله، فهو ابن المحافظة الغني عن التعريف، كما سبقه إلى ذلك الآثاري مصطفى الحسّون طيّب الله ثراه، وتبعهما جيل آخر من المثقفين من أبناء الرّقة، وكان لقاؤهما الوحيد في مكتبة الخابور، والتي كانت تعقد فيها جلسات حوارية مطوّلة لها أوّل وليس لها آخر.

إنَّ أحمد الخابور، وهو رغم تواضعه الجمّ، عرف عنه سعة اطلاعه، وثقافته الخصبة، وعلاقاته الاجتماعية مع الكثير من أبناء الرّقة، من أطباء، ومهندسين، وكتّاب، وصحافيين، وفنانين تشكيليين، ورجال مال، ووجوه عشائر، وأصحاب نفوذ.. وله أسلوبه الخاص في تعامله مع هذه الشرائح مجتمعة، بثقة وحكمة. فهو يغنيك بحديثه المشوّق، وبأسلوبه السلس، ويرشدك إلى غايتك بطريقة فيها الكثير من الإبهار، أضف إلى أنّه يمتلك صورةً ثقافيةً عميقةً لا يمكن أن تجدها في شخص آخر، من أبناء الرّقة، كما هو حال الخابور، والسبب في ذلك مدى تعاطيه مع شرائح المجتمع الرّاقي المثقّف، وبمختلف فئاته.

وإذا ما أردنا أن نبحث عن المدرسة التي نهل منها أبو زهرة، فهي مدرسة الحياة والمجتمع التي لم تتعدّ الصفوف الدراسية الأولى، ولكن علاقاته الواسعة مع مختلف شرائح المجتمع، وكبار شخصيات الرقّة ووجهائها وشبابها المثقف، وبصورةٍ دائمة ويومية، جعلت منه إنساناً أكثر وعياً، ناهيك عن تجربة عميقة ذات بعد ثقافي، ومبحرة في عالم ما زال الكثير من أبناء جيله، وللأسف، خاوي الفكر، ضعيف الرؤية، غير قادر على محاكاة الغير إلاّ بأفق ضيّق جداً.

إنَّ مكتبة الخابور، وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي لحق بها، وبإحراق ما احتوته رفوفها على مرّ السنين الماضية، ومنذ تأسيسها، في عام 1957، على وجه التحقيق، من كتب أدبية وعلمية، تاريخية وفلسفية، ومن مجلات وصحف ورقية، ظلّت وما زالت وستبقى بمكانة صاحبها، وعلاقاته الاجتماعية، وثقافته الغنية، وزيارات العديد من مثقفي الرقّة إليها بصورةٍ دائمة، وحضور جلساتها المتواضعة، ونقاشاتها الجادّة، تظل برأيي، هي الحافز الوحيد على بقائها، وسيظل اسمها علماً لا ينسى، وما يجري فيها من نقاشات جادة ومفيدة، لا يزال محفوراً في قلوب أبنائها، كما هو صاحبها أحمد الخابور، الذي يعودُ إليه الفضل في استقطاب هؤلاء الشباب المثقف، ويضفي على تلك الحوارات الساخنة، طابع الضيافة العربية الأصيلة، بالاحتفال بزواره بتقديمه لهم القهوة العربية "المرة" التي يقوم بإعدادها وتقديمها بنفسه لكل من تحط قدمه أرض المكتبة.

هكذا كان واستمر في استقطاب كل من يجد في نفسه القراءة، ليس محبةً في المال وإنما هو الحب المجبول بالمعرفة والذي كان يحاول أن يصل به إلى شرائح المتعلّمين الهواة الراغبين في اكتساب المعرفة أولاً من أبناء بلدته.

ويصرّ الخابور على إبقائه مهمّشاً، برغم العوز وضعف المورد الأساسي من عائدات المكتبة، من توزيع الصحف وبيع المجلات والكتب، وإنما وجودها مجرد ديوانية، وجلسة حوارية جماعية، والتي تعتبر رمزاً لمثقفي مدينة الرّقة، وكتّابها وصحافييها، بصورةٍ خاصة. الهدف منها سرد الحكايات، ومعرفة الأخبار، والوقوف على كل ما هو جديد في الرّقة، وما يدور في أذهان أبنائها، ومن هنا ظلّت مكتبة أبو المهند اسماً على مسمّى.

إنها تشكل منتدى ثقافياً اجتماعياً متأصّلاً، كما هو حال صاحبها الذي لم يبحث يوماً عن المال أو الشهرة، وإنما أكثر ما كان يهمّه هو البحث عن المثقفين من أبناء الرّقة، من صحافيين وكتّاب وغيرهم، والاستماع إليهم، وإبداء وجهات نظرهم، وهذا هو الهدف، ونجح في ذلك.

يقول الخابور: "مكتبتي الصغيرة تمثل مركزاً ثقافيّاً مصغّراً، وكان من أبرز روّادها الطبيب الأديب عبد السلام العجيلي".

وعن تضييق الخناق الذي مارسه عليه عناصر "داعش"، الذين سبق لهم أن زاروا المكتبة، في أكثر من مرة، ونظرتهم إلى محتوياتها، قال: "قالوا لي بالحرف الواحد، هذا المكان لا يدخله الرحمن، والكتب شبيهة بالكفرة، ونريد التخلّص منها". وقال لهم بدوره: "خذوا ما يلزمكم وأحرقوا البقية منها.. فسورية حرقت جميعها وأنا لن أزعل على حرقكم الكتب".

وعن مدى حبه وولائه للمكتبة والكتب، قال: "أنا جزء من المكتبة، ومن الصعب أن أتنازل عنها. المكان جزء من تكويني، وأنا لا يهمني الكتب بقدر ما يهمني المكان والروّاد والأصدقاء الذين أحبّهم وأعشقهم، وهم في المقابل يحبونني.. وسبق أن زارني عدد كبير منهم، وقالوا لي بالحرف الواحد: عندما تعود المكتبة إلى الحياة هذا يعني أنَّ الرَّقة تحرّرت".

وطلب صاحب مكتبة بور سعيد دفنه تحت أنقاضها، بقوله: "بدلاً من دفني في المقابر أفضّل دفني هنا". ويشير إلى حيث بقايا مكتبته التي سويت مع الأرض.

وبدورنا نسجل الشكر والعرفان بحق هذا الإنسان الذي أعطى وبدون مقابل، وهذا ما أراد أن يزرعه في عقول وقلوب أبناء هذه المدينة التي لا تنكر أفضاله. فقد شاخ مع مرور الوقت، وها هو اليوم يحتفي بقرَّاء النخبة من مثقفي الرّقة الذين احتضنهم يوماً، والذي عايشهم صغاراً، وهاهم اليوم أصبحوا من كبار الكتّاب والصحافيين والأطباء والمهندسين والفنانين والمثقفين.

أخيراً، ماذا يمكن أن نقدم نحن لهذا الإنسان الذي قدم للرّقة وأبنائها المثقفين الكثير من الخدمات الجليلة، وأهمها المعرفة؟!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.