جريمة في رام الله ومنطق الاستثناء

جريمة في رام الله ومنطق الاستثناء

17 فبراير 2017
+ الخط -
قبل فترة وجيزة، لوَّح البرلمان الفرنسي بمشروع قرار، يجرِّم الذين يطلعون باستمرار على المواقع "الجهادية"، لأنّ هناك حالة خاصة تعيشها البلاد، وهو ما اعتبره كثيرون نقضاً للحريات الشخصية. فكرت عند سماعي الخبر، باحتمال أن يحدث شيء شبيه في بلادنا، وهو أمر غير بعيد، مع تصاعد هوس العالم جميعه بالإرهاب ومخاطره الوجودية. ما الذي يمكن أن يحدث لو سن قانون شبيه فعلاً عندنا؟ ماذا ستكون ردة فعل مثقفينا مثلاً؟ 


 الأمر في بلادنا أكثر تعقيداً، خاصة عندما يتعلق الأمر بتنويريينا الذين لم نأخذ من تنويرهم غير وجع الرأس، والذين ينظرون إلى الحريات الشخصية باعتبارها أمراً شخصيّاً فعلاً. أي يقفون مع الحريات التي تنفعهم وضد التي لا تنفعهم. أو بالعلمانيين الأرثوذوكس الذين يرون الحرية فقط في كل ممارسة قد تنغّص على المتدينين حياتهم، أو مثقفي الإسلام الليبرالي الذين يحتاجون في كل دقيقة إلى إثبات براءتهم من التطرف، وإلى برهنة اعتدالهم.


 تحتاج السلطات دائماً، إلى نوع شبيه من المخاطر الكبرى من أجل تبرير خروجها عن القانون والأخلاق، أو عن المصالح المباشرة للأمة، فهناك دائماً أشياءٌ لها أولوية على الموقف الأخلاقي، وكأنها تتيح الانتهاكات. الإرهاب في عالم اليوم يأخذ هذه الوظيفة بامتياز، وهذا معروف. في مصر يخسر نظام السيسي نسبة غير قليلة من عائدات السياحة، من أجل أن يثبت للعالم أن مصر جديرة بوجود إرهاب. فالأمن أهمّ من مؤشّرات الدخل القومي ونسب البطالة ومستوى المعيشة. طيب لا مشكلة، قد يكون هذا صحيحاً، لكنّ الكارثة أن إثبات أهميّة الأمن يجيء دائماً من إثبات وجود الإرهاب. فالسلطات لا تطمئن الناس من أجل إشعارهم بدور الاستقرار وقيمته، ولكنها على العكس تهددهم دائماً من أجل إشعارهم بذلك. دائما هناك شعور أننا في مرحلة طوارئ، وهي مرحلة تستوجب معايير خاصة ومختلفة للأخلاق والقانون.

الذهن الذي يسوّق المؤامرة في سورية، من أجل تمرير كل السياسات "الطوارئية"، التي وصلت إلى إبادة المجتمع السوري جميعه، هو نفسه ذهن الانقلابيين في مصر وفي اليمن، وحفتر وجماعته في ليبيا. وهو نفسه الذهن الذي يستخدم الانقلاب وجماعة غولن ذريعة لتصفية المعارضة في تركيا، والذي يلجأ إليه اليمين الأوروبي والأميركي والإسرائيلي لاستلهام نماذج نازية. وهو في فلسطين تهديد السلطة الطويل بالفلتان الأمني، وبدحلان مُؤخّراً.

 

الأهمُّ أنّ حالة الطوارئ المذكورة، لمْ تعد جزءاً من الخطاب الأمني للسلطات فحسب، ولكنها انتقلت إلى مواقف مثقّفين كُثُر. والمفارقة، أنّ كثيراً من مثقفينا ما زالوا يمارسون شكلاً متناقضاً من خطاب التهديد هذا.

 

مُؤخَّراً، منعت رواية، عباد يحيى، من التداول في الضفة الغربية، وأرسلت مذكرة اعتقال وتحقيق لصاحبها. واتفقت ولله الحمد معها سلطة حماس في غزة، والحجة هذه المرة خدشها الحياء العالم. ومثقفون كثر رددوا بطرق مختلفة خطاب السلطة، وإن أكدوا وقوفهم ضد المنع. كثيرون رأوا يحيى محظوظاً بالمنع، وأن السلطات قدمت خدمة للنص وللمؤلف وروجت لها، وهذا منطق مضحك ولا يُساجل. لكنني أرى عباد يحيى محظوظاً فعلاً لسبب آخر، غير ما ذكروه. يحيى محظوظ ببساطة لأنه استطاع خلال عملين أن يطل على تناقض فاضح مارسه بعض المثقفين الفلسطينيين. في روايته رام الشقراء، هوجم الكاتب وهوجم العمل، تحت ذرائع مواقفه الرجعية. وأتذكر بعض من قالوا إننا في حالة استثنائية، ولا يجب أن يهاجم منجزنا المديني، أو يحاكم تحت الاحتلال بهذه الطريقة. رفضوا نقد المدينة، فهي إنجاز وطني خاص تحت الاحتلال.


 في الرواية الأخيرة، "جريمة في رام الله"، هوجم الكاتب، لأن العمل حسب رأي المثقفين أنفسهم، لم يراع الحالة الاستثنائية للفلسطينيين أيضاً الذين يجب أن ينشغل الأدب عندهم بحالتهم الخاصة، وألا يذهب إلى مساحات محظورة. الحالة الاستثنائية التي لا يجب أن تتزعزع صورة المناضلين فيها، والتي لا يجب أن نخرج عن ذوقها العام.

ومع أن الرواية، كبناء فني، مترفعة عن كل هذا النقاش، ولأن تحميل الكاتب مواقف الشخصيات، وملاحقته من خلال آرائها، لم يعد مقنعاً في الأدب إجمالاً اليوم. إلا أن أهم ما في نقود الروايتين، هو اجتماعهما على حالة الاستثناء المذكورة. يستطيع من ينادون بالحرية أن يتخلوا عن شعاراتهم أحياناً، لأننا نعيش ظرفاً خاصاً، ويستطيع التقدميون التساير مع المبررات المحافظة للهجوم على العمل، لأننا في وضع غير عادي.

يكرر المثقفون الفلسطينيون نفس خطاب الأنظمة الأمني، ويتسايرون مع الرأي العام الذي يرى في بعض الأعمال "رجعية" أحياناً، وإباحيّة أكثر من اللازم أحياناً. وهذا لا يختلف أبداً عن المواقف الكثيرة التي تضع الحريات في آخر أولوياتها، لأن هناك دائما أشياء أهم؛ مهاجمة الإرهاب في دول عربية كثيرة، المقاومة في خطاب بعض الأنظمة المضحك، ومنهم حماس، أو بحجة الأدب الذي يجب أن يكون "ملتزماً" هذه المرة.