وحدها ستنتصر

وحدها ستنتصر

09 فبراير 2024
+ الخط -

كان عدوانٌ صهيونيّ على غزّة في 2021، وكنتُ في المعتقل، تُوجعني المسافةُ والجدران التي تفصلني عنهم، دون خبرٍ يصل ليُطَمئِن، ظانًّا بحماقة أنّ وجودنا خارجَ المعتقل سيشكّل فارقًا ما، أنّ معرفتنا للجريمة قد تمنعها أو تخفّف منها، لكنّ الحاصل الآن أثبت خلافَ ذلك؛ إذ كلّنا شهود، والإبادة لا تتوقّف، ولا نقدر حتى على إدخال كسرةِ خبزٍ أو شربةِ ماء.

وقتَ عدوانٍ ظنناه الأعنف، كان هذا النصّ، في المعتقل.

------

الوقتُ ثقيلٌ هنَا، مرهقٌ وموجع. يجترّ الذكرياتِ، ومشاهدَ الصحبةِ، وفسحةَ البراحِ، وفائتَ القدرةِ؛ فتتزاحمُ علينا والبابُ مُغلقٌ لأيامٍ، في زنزانةٍ ضيّقةٍ/ قابضة، تستفردُ بنا؛ فتنهكُنا، عادةً.

ما بالكِ وأصحابي تحتَ القصفِ يقضونَ وقتهم كلّه؟ أتصوّرهم، واحدًا واحدًا: مصابينَ، وفزعينَ، وشهداءَ... طوال اليومِ أراهم، صحوًا، وشبهَ منامٍ (أقوم هلعًا وسطَ تهدّمٍ، قصفٍ، ساريناتُ إسعافٍ، وأشلاء متناثرة...).

لي هناكَ أهلٌ، كأهلي، وزيادة. أهلٌ تشاركتُ معهم: لذّة الوقوفِ على قدمِ الحقّ، سكرة الذهابِ المتعجّلِ إلى الموتِ، غريزة الاختباءِ ممّا لا اختباءَ منه.

كلّنا شهود، والإبادة لا تتوقّف، ولا نقدر حتى على إدخال كسرة خبز أو شربة ماء

غنّينا معاً، كلّ ليلةٍ: "حمّلوني هيه يا رفاقي، وارفعوني ع الكتوف.. زفّوني زفّة عرس يا رفاقي، زغردولي بكلاشينكوف..." هامسينَ في طريقنا للثغورِ، متضاحكين همسًا، وباكين دون دموع.

تشاركتُ معهم ما لم أتشاركهُ مع غيرهِم طيلةَ عمري، فكيفَ يمرّ الوقتُ يا ترى، وأنا أعرفُ يقينًا أنّهم ليسوا بخير؟ كيفَ وأنا غير قادرٍ على العودةِ لـ هناكَ؛ لأحملَ سلاحًا، حجرًا، أو حتى جرّةَ ماءٍ لهم؟ عدتُ وقتَ عدتُ، قبلَ اثنتي عشرةَ سنةً؛ لأكملَ مسيرَ الـ هنا أولاً.

وعَدتُهُم: سآتيكم، لا وحدي في القادمِ، سنكونُ جيشَ تحريرٍ.. مِصرُ، فـ أنتم!

كيفَ بي الآنَ، وقد أُحبِطَ صبحُ مصرَ، وجثمَ أغشمُ الليلِ وأغدرُه على صدرِها؟ فتكالبَ العدوّ، والخونةُ وكلابُ السككِ، ممّن لم يجرؤوا مِن قبل؟

ها هيَ تُقصفُ، وها هم يخونونَ، صمتًا وتطبيعًا، وإدانةً للمقاومةِ أو حصارًا لها. وهنا أنا هُنا في زنزانتي، لا محرومٌ من مشاركتهِم النضالَ والمصيرَ فقط، إنّما محرومٌ، حتى، من معرفةِ ما الذي حدثَ؟

ها هيَ تُقصفُ، وها هم يخونونَ، صمتًا وتطبيعًا، وإدانةً للمقاومةِ أو حصارًا لها

هل نجا الأهلُ والرفاقُ؟

كيفَ ولا نجاةَ أصلاً من الحربِ؟

عندما تتوقّفُ الطائراتُ، والمدفعيةُ، والزوارقُ عن حصادِ الأرواحِ والأبنيةِ، لا تتوقفُ زلزلتُها في النفوسِ، ولا يستعيدُ الميّتُ حياتَه، ولا المصابُ أشلاءَ جسدِهِ، ولا ينفع الأرواحَ المحطّمةَ فيها جهودُ إعادةِ الإعمارِ ووفود تثبيت الهدنة.

….

لكنّي، ككلّ وقتٍ، لا على العربِ أراهنُ؛ طابورُ خياناتِهم طالَ وامتدّ، خيانةً رخيصةً مبتذلة. ما أحقَرَهم!

ولا على العالمِ، ذلكَ المتواطئِ، الشريكِ، القاتلِ..

ولا على الضميرِ الإنسانيّ؛ فقدتِ البشريةُ ضميرها وشرفَها منذُ زمن.

أراهِنُ فقط على بسالةِ أهلِ فلسطين، وصمودِ أهلِ فلسطين، وبأسِ أهلِ فلسطين.

أراهنُ على المقاومةِ وسلاحِ المقاومةِ. وحدها، ستحدّدُ المسارَ، وحدها ستنصرُ القضية، ووحدها ستنتصر.