في ذكرى الـ"أمل"

في ذكرى الـ"أمل"

23 مايو 2024
+ الخط -

"ستشقين معي؛ فأنا لا أملكُ قوتَ يومي، وأقيم غالبًا في معتقلٍ ما"، لا أذكر كمّ مرّةً رددتها على حبيبةٍ أو صاحبةٍ تفكّر لنا في خطوةٍ للأمام، دون أن أعرف أنّ قائلها هو "أمل دنقل"، ولو بتصرّفٍ منّي.

الشعرُ شقاءٌ أصلاً، لعنةً لا يُشفى منها الشاعر ولا يكتفي، وإن سنحت الفرصة فلن يتركها هو حيًّا.

وكم شقيَ "أمل" وشقيت معه/به حبيبته، لا بالشعر وحده، إنّما بالوطن، والمرض... وربّما الحياة.

...

تصادف أنّ حوارًا صحافيًّا جمعني بالشاعر الكبير زين العابدين فؤاد قبل أيّام، كان مدخله رفض حبس المبدع في أحد أعماله، تلك المأساة التي طالما رفضها أمل دنقل تصنيفًا/حبسًا بعد أن حُشِرَ فيها هو وغيره من المبدعين، كالقول "شاعر سياسي"، "شاعر حماسي"، "شاعر وطني" ... إلى آخر القائمة، كسلاً أو استسهالاً من القرّاء والنقّاد؛ فالشعر شعر، والقصيدة فيها كلّ ما يحمله الشاعر من عاطفةٍ وفكرٍ، ولا فوارق مُدركة (حتى في ذهن الشاعر ذاته) بين الإنساني والعاطفي والاجتماعي والسياسي، ولا يصحّ ليّها قسرًا لتلبّي رغبة القارئ أو الناقد أو تجاري كسلهما، أو حتى تواكب اللحظة وما فيها من ظرف.

...

في المعتقل كان "علاء" يناديني طالبًا أن أقرأ عليه "كلمات سبارتكوس الأخيرة" بين الحين والآخر، إلى أن صارت "عنبرةً" معتادة في كلّ معتقلٍ دخلته، وما زالت في "الوطن السجن" الذي ننحشرُ فيه كلّنا بلا أفقٍ للحريّة (علاء ما زال معتقلاً منذ لحظة ابتداءِ عصر المظالم هذا، ولستُ هناك لأقرأها عليه).

في المعتقل لم تدُم صحبةٌ من كتب إلّا لاثنين من الشعراء: ناظم حكمت، وأمل دنقل. مئاتُ الكتب صُودِرت أو أُتلِفت أو فُقِدت انتقالاً بين سجنين إلّا هذين الكتابين، وهذا وقت الحديث عن "أمل" في ذكراه (آخر نسخةٍ كانت معي، أهديتها لجلال البحيري، الشاعر المعتقل عقابًا على قصيدة، وهو ما زال معتقلاً حتى اللحظة). 

لا يصحّ ليّ القصيدة قسراً لتلبّي رغبة القارئ أو الناقد أو تجاري كسلهما

في المعتقل كانت "لا تُصالح"، أشهر قصائد أمل دنقل وأكثرها رواجًا على الألسنة وفي الأذهان، غنوةً شبه يوميّة، في جلسات السمر في الزنازين أو انطلاقًا من "نضّارة" هذه الزنزانة أو تلك؛ وصيّةً محكيّة للذات وللرفاق.

لا أذكر متى تعثّرتُ فيه أو عثرت عليه، وإن كنتُ أذكر جيّدًا "تعليقٌ على ما حدث" كمدخلٍ غير معتادٍ/مشهورٍ له، بعيدًا عن "لا تصالح"، بوابته شديدة التقليديّة والذيوع، والتي حفظتها كما أبناء جيلي وردّدتها في غير موضعٍ شخصيٍّ أو عام، إلى أنْ اقتنيتُ أعماله الكاملة بمصروفٍ مدرسيٍّ جمعته بمشقّة، ولم تفارقني منذئذٍ؛ أقرأ منها قبل النوم، أتلو بعضها على نفسي طبطبةً حين مشقّة، أو أقولها كعنبرةٍ متكرّرة على الرفاق والجيران في السجون التي سكنتها طويلاً، أو حتى يردُّ بشيءٍ منها ذهني عليّ حين ارتباكة تفكير.

وما زال مفتتح "تعليقٌ على ما حدث" صيحةً أردّدها تعليقًا على ما يحدثُ يوميًّا في بلادنا المسكينة وعنوانًا عريضًا في وجه أولئك الذين يحكمون، ولا تقتل أسلحتهم إلا نحنُ، حمايةً للمحتلّ والكرسيّ:

"قلتُ لكم مرارًا

...

إن المدافع التي تصطفّ على الحدود.. في الصحارى 

لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء 

إنّ الطلقة التي ندفع فيها 

ثمن الكسرة والدواء:

لا تقتل الأعداء 

لكنّها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا

تقتلنا وتقتل الصغارا.