نقد فكرة الموت من أجل الفكرة

نقد فكرة الموت من أجل الفكرة

28 فبراير 2024
+ الخط -

ثمّة خطأ هيغلي تسرّب إلى الفكر المعاصر، مفاده أنّ الفكرة تحتاج إلى الاستعداد للموت من أجلها حتى تدوم. وبذلك النحو يستدل البعض على قرب انهيار قيم الحضارة المعاصرة طالما المستعدّون للموت من أجلها قليلون. يبدو الأمر كما لو أنّه كذلك!

مع صعود النازية، قليلون هم الألمان الذين اختاروا القتال من أجل الديمقراطية. في النهاية، إنّ الحرب العالمية التي خاضتها الجيوش هي التي حسمت الموضوع. تلك هي التجربة التي حاولت أميركا إعادتها في العراق وأفغانستان خلال مطلع القرن الحالي.

مؤكد أيضاً أنّ الصينيين إلى غاية اليوم ليسوا مستعدّين للموت من أجل الديمقراطية، بمن فيهم الذين يطالبون بها. كما أنّ الإسلام السياسي الذي راهنت عليه الإدارة الأميركية لكي يوجّه طاقته الجهادية نحو القتال من أجل الديمقراطية، قد أظهر في اللحظات الحاسمة عدم جاهزيته للموت من أجل مصطلح يعني باليونانية "حكم الشعب"، حتى وإن كان هناك من يفضّل الموت "في سبيل الله"!

الفرنسيون أنفسهم، حفدة الثورة الفرنسية، لا يبدو أنّهم مستعدون للموت من أجل الديمقراطية في حال انهيارها لأيّ سبب كان، سواء بسبب صعود اليمين المتطرّف، أو حدوث تغيّر ثقافي ديمغرافي، أو نحو ذلك من المفاجآت المحتملة. فهل هي أزمة في الوضع الحالي أم أزمة في الرؤية الهيغلية؟

لا تحتاج الفكرة النبيلة إلى الموتى مهما كثر عددهم، بل تحتاج إلى الأحياء مهما قلّ عددهم

أفترض الإجابة الثانية، طالما الأزمة ملازمة للوجود بالضرورة، وطالما الهشاشة ملازمة للديمقراطية في كلّ أحوالها، وليس لنا من خيار آخر غير التعامل مع الوضع، وهكذا أقول:

لا تحتاج الفكرة النبيلة إلى الموتى مهما كثر عددهم، بل تحتاج إلى الأحياء مهما قلّ عددهم.

في ستينيات القرن الماضي، قدّم الحزب الشيوعي الإندونيسي ما بين مليون وثلاثة ملايين شهيد، رقم مرعب بالنسبة لحزب سياسي واحد. كثيرون دُفِنوا أحياء في آبار مهجورة داخل جزر الأرخبيل. أما في الأرجنتين، فقد كان يتم شحن اليساريين في الطائرات قبل رميهم من السماء أحياء. ملايين الحالمين بعالمٍ أفضل لم تكن تعوزهم شجاعة الموت البطولي في أشدّ الظروف ضراوة، غير أنّ الحلم لم يصمد بالقوة نفسها طويلا. وحدهم الأحياء يواصلون الحكاية إلى النهاية، وهم صنفان من الناس: 

هناك من يتكيّفون لأجل بقاء الهدف، وهؤلاء هم الأقلية؛ وهناك في المقابل من يُكيّفون الهدف لأجل بقائهم، وهؤلاء هم الأكثرية. لكن هنا يكمن الخلل.

الموت ليس معياراً لقيمة الحق كما ظنّ هيغل، بل ليس معياراً حتى لقيمة الشجاعة نفسها

قد يُفرَض على الإنسان أن يموت بشجاعة، هذا ما فعله ملايين الناس منذ فجر الحضارات، وبذلك النحو فرضوا احترامهم. العالم كلّه يحترم تشي غيفارا، مع أنّ القليلين يرونه على حق. ذلك أنّ الموت ليس معيارًا لقيمة الحق كما ظنّ هيغل، بل ليس معيارًا حتى لقيمة الشجاعة نفسها.

هناك مثال دال:

مقاتلو الساموراي الذين انتحروا عقب هزيمة اليابان بمختلف الطرق ليسوا الأكثر شجاعة، كما أنّهم لم يحسموا أيّ مآل، بل الأكثر شجاعة هم الذين امتصّوا الهزيمة بعنفوان، وتحوّلوا إلى مدراء لأهم القطاعات الإنتاجية في اليابان. ومن ثمّ شقوا طريق نهضة اليابان بعيدًا كلّ البعد عن شعار "الموت أسمى أمانينا"!

بصرف النظر عن قصصِ الموت بشجاعة، والتي تعود في معظمها إلى عصر التوسّعات الإمبراطورية، وبغضّ الطرف عن الموت من أجل الله أو الحاكم أو أيّ شيء آخر، فإنّ التاريخ الفعلي يصنعه الذين يواصلون العيش بشجاعة في كلّ الظروف، ويمتصون الضربات، ويتكيّفون مع شراسة القدر والبشر بعنفوان إنساني، ويشقون في النهاية طريق المجد للمغلوبين، شبرًا شبرًا، فلا الصباح يأتي دفعة واحدة ولا المساء.

ليس جباناً من يهرب من الأسد، وليس شجاعاً من يواجه الأسد بأيادٍ فارغة

هناك من يظنّ أنّ التراجع أمام الخطر الذي يهدّد الحياة ضرب من الجبن، وهذا وجه آخر للخطأ. ليس هناك أيّ جبن في أن يحرص الإنسان على البقاء، ما دام القرار هنا قرار الحياة نفسها. 

ليس جبانًا من يهرب من الأسد، وليس شجاعًا من يواجه الأسد بأياد فارغة.

عمومًا، لا يتطلب الذهاب إلى الموت أي شجاعة تُذكر. ليست الشجاعة هي التي تدفع الإنسان نحو الانتحار مثلا، بل إنّه الجبن الغائر في أعماق الروح. عندما ينتحر إنسان يواجه الإفلاس، أو الانكسار العاطفي، أو التشهير، أو الاتهامات الرخيصة، فلأنّه يفتقد إلى شجاعة مواجهة الموقف، ومواصلة معارك الحياة إلى نهاية الحياة.

لا توجد شجاعة لدى المنتحرين، بل يوجد الخوف الشديد من المواجهة، وهو الخوف الذي يدمر إرادة الحياة. الخوف الشديد، مثل الحزن الشديد، مثل الغضب الشديد، قد يجعل الإنسان يستعجل هلاكه بنفسه.

الخوف الشديد، مثل الحزن الشديد، مثل الغضب الشديد، قد يجعل الإنسان يستعجل هلاكه بنفسه

وهكذا أقول لك:

إذا شعرتَ بأنك تستعجل الموت فلا تظنّن أنّها الشجاعة. فالشجاع لا يستعجل الموت، طالما الانسحاب من الحياة انسحاب من المعركة.

من ماتوا بشجاعة ماتوا شجعانا بالفعل، ذلك قدرهم النبيل، غير أنّ الفكرة لا تُقاس بعدد الأشخاص المستعدّين للموت من أجلها، بل تقاس بعدد الأشخاص المستعدين للتفكير ومعاودة التفكير فيها، المستعدّين لمساءلتها ومعاودة بنائها كلّ مرّة، وبنفسٍ جديد.

عسى يكون لنا بعد العسر يسرًا، وعسى الأمور على هذا النحو تدور.

سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد