مذبحة ماسبيرو.. ومرارة السؤال!!

مذبحة ماسبيرو.. ومرارة السؤال!!

19 يناير 2017
+ الخط -


رغم مرور أكثر من 63 شهراً على مذبحة ماسبيرو الشهيرة، التي وقعت أمام مقر التلفزيون المصري يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وعلى بعد خطوات من ميدان التحرير، إلا أنني لا أزال أشعر بمرارة هذا السؤال: "أنت مسلم ولا مسيحي؟
!".

ذلك لأنني لم أكن أتوقع أن يطرحه عليَّ أحد طوال حياتي، ليس بسبب ديانتي، ولكن بسبب كرهي الشديد للعنصرية، ومقتي لمحاولة البعض التفرقة بين أبناء البلد الواحد، على أساس الدين أو الأيديولوجيا والفكر السياسي، ورفضي المطلق لمنطق التعامل مع المصريين على أساس الديانة، وتفضيل شخص على آخر حسب الهوية، إضافة إلى أن العديد من أصدقائي في الدراسة والعمل والسكن من المسيحيين.

أعترف أن هذا السؤال الذي طُرح عليَّ وأنا بقلب مظاهرات ماسبيرو، كان الأصعب في حياتي، ذلك لأن الإجابة عنه كانت كافية، إما لإنقاذ حياتي من موت محدق يحيط بي من كل جانب، أو إرسالي إلى الدار الآخرة، ولأول مرة أرتبك في الإجابة عن هذا السؤال الصادم، ربما لأنني لم أتوقع طرحه عليّ من الأصل.

"أنت مسلم ولا مسيحي؟!"


السؤال طرحه عليَّ متظاهرون غاضبون كانوا مشاركين في أحداث ماسبيرو الشهيرة، التي راح ضحيتها نحو 24 مصرياً معظمهم من الأقباط، ففي يوم 9 أكتوبر 2011 فتحت قوات الأمن النيران على متظاهرين تجمهروا أمام مبني اتحاد الإذاعة والتلفزيون، للاعتراض على ممارسات عنصرية صدرت ضد بعضهم، وردًا على قيام سكان بمحافظة أسوان (جنوب مصر) بهدم كنيسة غير مرخصة، واعتراضاً على تصريحات لمحافظ أسوان، اعتبرت مسيئة بحق الأقباط.


في هذا الْيَوْم كنت ضيفاً على قناة "الحرة" الأميركية، للحديث عن أسباب تجاهل الحكومات السابقة لمشروع تنمية سيناء، وكيف أن المبالغ التي رصدتها هذه الحكومات لمشروعات التنمية بهذه البقعة الغالية على كل مصري، ذهبت مع الرياح ولم تغادر مانشيتات الصحف، وميكرفونات الفضائيات.



وبينما كنت جالساً في الاستوديو، أتحدث على الهواء مباشرة عن أسباب هذا التجاهل المتعمد لهذه المنطقة العزيزة من مصر، وكيف أن الحكومات المتعاقبة كانت تتاجر بقضية سيناء من دون حلها، سمعنا طلقات نيران كثيفة هزت المبنى الذي كانت القناة تقع بالدور العلوي منه.

شخص ما أبلغ المذيع أن قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية، تطلقان النيران على المتظاهرين الواقفين أسفل مبنى ماسبيرو، حيث كان مقر قناة "الحرة" وقنوات فضائية أخرى تقع بالقرب من المبني الشهير، وأن هناك قتلى ومصابين من الجانبين.


ارتبك المذيع، وسأل المخرج بسرعة خلال فاصل: "هل أنتم متأكدون من الخبر؟". كانت طلقات الرصاص أكبر دليل على صحة الخبر الذي أعلنه المذيع، بشكل عاجل ونحن على الهواء.

عقب إذاعة النبأ حاول المذيع استجماع قواه، أكمل الحديث معي عن مشروع تنمية سيناء، لكن غزارة النيران شوّشت على الحوار وأربكت كل من كان في الاستديو، وخاصة أن بعض الطلقات كانت قريبة جداً منا.


فجأة أوقف المذيع البرنامج بعد أن دخلت علينا قوات أمن تبحث عن جناة، أطلقوا النار على القوات المتمركزة أمام مبنى ماسبيرو، ويظنون أنهم اختبأوا في المبنى الذي تقع به القناة.

المذيع يوقف البرنامج بعد أن صرخ في الشخص الواقف خلف الكاميرا (الكاميرا مان)، كما يطلقون عليه: "سيبهم، (أي اتركهم)، يا مصطفى"، كان "الكاميرا مان" يحاول أن يعترض طريق قوات الأمن التي تبحث عن جناة، بسبب اقتحامها الاستديو، ونحن على الهواء، هنا أدرك الجميع خطورة الموقف، ركضت أنا والمذيع والطاقم الفني نحو الشرفة لنشاهد من الدور الـ12 ما يحدث على الأرض.


رأينا مجزرة، قتلى ومصابين من المتظاهرين وقوات الأمن، مئات المتظاهرين يسيرون في حركات أشبه بالموج، حركات ليست في اتجاه واحد، مرة اندفاعاً نحو قوات الأمن الواقفة وخلفها كورنيش النيل، وثانية نحو المباني الواقعة على الكورنيش حيث يحتمون بها من طلقات الرصاص القادمة من الجانب الآخر، وثالثة نحو ميداني التحرير وعبد المنعم رياض حيث الفرار أمام قوات الأمن، ورابعة نحو طريق شبرا الخيمة من ناحية اليمين حيث قدموا من هناك، وخامسة نحو أبواب مبنى ماسبيرو، ربما بحثاً عن إعلامي أو مذيع أو مسؤول كان ضيفاً على أحد برامج التلفزيون الرسمي للانتقام منه.

رأينا كذلك متظاهرين يستولون على مدرعة ويقودونها ذهاباً وإياباً على كورنيش النيلالجو بات متوتراً جداً، وخاصة أن طلقات النيران الكثيفة لم تتوقف بعد.

وبينما أنظر من شرفة قناة "الحرة" رأيت صفاً من السيارات المشتعلة لمسافة تزيد عن 500 متر، وكأنها حبات عقد من اللهب المتصل، أو كأن شخصاً أشعل النيران في زراعات قمح.

فجأة تذكرت أن لي سيارة أركنها أمام مقر القناة، كنت قد اشتريتها قبل شهرين ولَم أؤمّن عليها بعد، جريت نحو المصعد، هبطت سريعاً، جريت في ممر العمارة التي تقع فيها القناة، فإذا بأناس يرتدون ملابس سوداء يكسو وجوههم الغضب، وهم يطالبون المتظاهرين بالتحرك نحو قوات الأمن للانتقام من قاتلي أقاربهم وذويهم.

ومن مدخل العمارة الضيق وجدت نفسي في قلب المتظاهرين، رأيت سيارتي الواقفة مباشرة أمام المدخل، فإذا بي أرى متظاهرين يلتفون حولها، عدد منهم يحطم نوافذ السيارة، واحد من هؤلاء استطاع أن يدخل نصف جسده في السيارة بعد أن حطم الزجاج وقام بتوزيع الجرائد التي كنت أضعها على الكرسي الخلفي لأقراها ليلاً، كان الرجل يوزع الجرائد على كراسي السيارة، وكأنه يفرش وروداً ورياحين على وجه متوف، أو يفرش جرائد على وجه شخص قتل في حادث سير، وبعدها أشعل هذا الشخص النيران في الجرائد الموجودة على الكرسي المجاور للسائق.

فتحت السيارة بسرعة من ناحية اليسار، جلست على كرسي القيادة، حاولت إطفاء النيران المشتعلة بجواري وبالقرب من "فتيس" السيارة، لاحظ عدد من المتظاهرين الملتفين حول السيارة ما أقوم به، فحاولوا قلب السيارة بي من ناحية اليمين.


لا أعرف لماذا يتعاملون معي هكذا، هل يظنون أنني ضابط شرطة أو فرد أمن، ملابسي لا تدل على ذلك، فأنا أرتدي ملابس رسمية عبارة عن بدلة وربطة عنق، هل يظنون أنني مذيع بالتلفزيون المصري أو بإحدى الفضائيات المنتشرة في هذه المنطقة، طيب وإذا كان الأمر كذلك، فما ذنب المذيع؟


وبينما أفكر بسرعة في الإجابة عن هذه الأسئلة السريعة، وإذا بمتظاهرين يحطمون الزجاج الأمامي لسيارتي، نزلت بسرعة من السيارة خوفاً على عيني من أن يدخلها الزجاج المتناثر، أو أن يتم حرقها بي كما أحرقوا عشرات السيارات قبل دقائق.


وعقب نزولي بسرعة من السيارة التفت حولي مجموعة من المتظاهرين، قام بعضهم بضربي بحصى وعصا خشبية كانوا يمسكونها بأيديهم، تحملت أول صدمة، ابتعدت عن سيارتي، جريت نحو فندق هيلتون الواقع يسار المظاهرات، فإذا بمتظاهر آخر يلصق بظهري عصا خشبية مثبتة بها مسامير كبيرة.


ورغم شدة الألم، إلا أنني تحملت الضربة وواصلت الجري، محاولاً الخروج من وسط المتظاهرين الذين لا أعرف حتى الآن لماذا يضربونني، هل لأنني أرتدي بدلة وربطة عنق، وبالتالي فأنا لست واحداً منهم، لكن لا يوجد شخص يذهب إلى مظاهرة وهو يرتدي الزي الرسمي، أم ظناً منهم أنني إعلامي يخرج من قناة فضائية، لا أعرف.

اندفعت إلى الأمام، لكن جاءت الضربة التالية أشد قسوة، متظاهر آخر يمسك بحجر ويضربني به على رأسي، هنا انهارت قواي وفقدت الوعي وألقيت بجسدي على الأرض.

في تلك الثواني رأيت أمي، رحمها الله، في رؤية لم يتعد زمنها ربما ثانية، كانت ترتدي ملابس بيضاء، نظرت إليّ نظرة خالية من أي تعبيرات، هل كانت حزينة عليَّ، أم تحثني على النهوض وعدم الاستسلام لخطر الموت، عاد إليّ الوعي مرة أخرى، استيقظت ونهضت، لا أعرف كيف تم ذلك حتى هذه اللحظة؟

المهم واصلت اندفاعي نحو ميدان عبد المنعم رياض، محاولاً الإفلات من بين أيدي المتظاهرين الغاضبين من قيام قوات الأمن بقتل 24 منهم خلال دقائق، وبعد أقل من مترين التف حولي عدد منهم، أمسك واحد منهم بربطة العنق التي كنت أرتديها وراح يخنقني بشدة لدرجة أن الهواء توقف عن التسرب إلى رئتي وجسدي.

في ثوان محدودة زاد عدد المحيطين بي وكأنهم عثروا على قاتل الـ24 متظاهراً، أو أنني أحد أقارب القتلة، سألني واحد منهم والغضب الشديد يكسو وجهه: اسمك إيه؟.. وقبل أن أجيب، سألني آخر: أنت مسيحي ولا مسلم؟ هنا أدركت خطورة السؤال، ارتبكت، لا أعرف بماذا أجيب؟ وأي الإجابات يفضلها هؤلاء حتى يفرجوا عن رقبتي وحياتي؟


زاد الخناق حول رقبتي لأنني لم أجب عن السؤال بسرعة، اختنقت، ولَم أستطع التنفس، وبينما أقتربُ سريعاً من الموت، إذ بشابين وقد اقتربا من المتظاهرين الغاضبين قائلين لهم: "اتركوه.. ده تبعنا.. هو مسيحي".


ساعتها بدأ الهواء يعود إلى رئتي وأنفي بعد أن تم فك الخناق حول رقبتي، وبسرعة قفزت فوق حاجز خرساني طوله متران كان يفصل بين المتظاهرين وسور فندق هيلتون رمسيس، وبعدها قفزت نحو الجانب الآخر من الشارع حيث يقع ميدان عبد المنعم رياض.


ركضت بسرعة نحو بائع الكتب والجرائد والمياه المعدنية الواقف في الجانب الآخر من الشارع وعلى أطراف الميدان، بسرعة تناولت زجاجة مياه، فتحتها وألقيت بالماء البارد فوق رأسي حتى يقف النزيف وأسترد كامل وعيي، حرصت على أن تصل المياه لظهري حيث صار ككتلة نار، بسبب آثار المسامير التي غرست به.


بعدها استلقيت على الأرض بعد أن انهارت قواي، بدأت أتنفس بسرعة، اتجه الشابان نحوي ليحملاني من تحت نحو سيارة، قال لي أحدهما بعد أن ركبت السيارة: "سنذهب لأقرب مستشفى للعلاج، سنذهب لمستشفى قصر العيني".


بسرعة صرخت: "لا، هذه النيران الممتدة على كورنيش النيل ستصل لمستشفى قصر العيني بعد دقائق"، وطلبت منه نقلي لأقرب مستشفى خارج القاهرة، واقترحت عليه مستشفى بمدينة السادس من أكتوبر، غرب العاصمة، حيث البعد عن مقر الصدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين، كما أنني أقيم في هذه المدينة، وإذا مت أموت بالقرب من بيتي وأولادي.


ومن ميدان التحرير اتجهنا نحو خارج القاهرة، كنت شبه فاقد الوعي، جسدي غير قادر على الحركة، ذراعي الأيمن لا أقدر على تحريكه، كتفي يعاني من ألم شديد، ظهري كتلة نار بسبب المسامير، ببساطة كان جسدي كله يعاني من ألم شديد وعدم قدرة على الحركة.


وخلال رحلة استغرقت أكثر من نصف ساعة، لم أدرك ما حدث طوال هذه الفترة، سوى حوار بين الشاب الذي أنقذني من بين أيدي المتظاهرين الغاضبين ووالده الذي فهمت بعد ذلك أنه طبيب، استيقظت حينما سألني الشاب: هل ترى الأرقام الموجودة على شاشة الموبايل، قلت له: "طشاشأي أراها بصعوبة.


كان الشاب يستفسر من والده عن حالتي، وكان والده يشك في إصابتي بارتجاج في المخ وكسوروصلنا المستشفى، سألني الشاب: هل نتصل بأولادك؟ فطلبت منه تأجيل الخطوة حتى لا يصابوا بصدمة، قلت له: "أطفالي صغار، ولو رأتني زوجتي بهذا المنظر ستتعرض لصدمة شديدة".


وبعد ساعات من وصولي المستشفى وإجراء الفحوصات، طمأنني الأطباء أن الإصابات سطحية، ولا يوجد نزيف أو ارتجاج في المخ كما كانوا يتوقعون خلال التشخيص الأولي، وأن الأمر يتطلب فقط راحة لمدة أيام لعلاج جروح وتهتكات في الكتف، وإصابات في الرأس والظهر، هنا اطمأن قلبي.. واتصلت بأسرتي.

​ 

 

 

 

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".