هيا بنا نقتل أنفسنا ونشرب دماءنا

هيا بنا نقتل أنفسنا ونشرب دماءنا

02 فبراير 2015
+ الخط -

"لن أكبّل أيدي المصريين في الثأر من شهداء الإرهاب".
مرة أخرى، يدعوك عبد الفتاح السيسي لكي تخرج شاهراً سيفك وحمقك وغلّك في وجه جارك، أو زميلك في العمل، أو قريبك، أو صهرك.
اختفت "أنصار بيت المقدس" من خطاب السيسي وإعلامه، وظهرت "الإخوان". غابت "ولاية سيناء"، وحضرت "حماس". اختلف خطابهم، بعد أن وصلت إليهم للتو توصيات دراسة الجدوى القادمة من بيوت الخبرة الصهيونية للاستثمار الأمثل في فاجعة قتل الجنود والضباط في سيناء.
لم تعد المسألة، إذن، رداً على عدوان خسيس ضد الجيش، بل باتت اغتناماً للفرصة، لتحسين أوضاع الجنرال المتخبّط في ثوب الفشل الفضفاض.. انتقلنا من الغضب والحزن على الجنود إلى وضاعة الانتهازية والتربّح من المأساة.
استنفد هؤلاء البُلداء عدد مرات الرسوب السياسي والأمني، والسقوط الأخلاقي والحضاري، منذ أن وعدوا بوطن أكبر من الدنيا كلها، عقب جريمتهم التي بدأت في 30 يونيو/ حزيران 2013، فقرروا أن يعيدوا العرض من أوله، من دون أي تغيير، أو تطوير، في القصة والسيناريو والإخراج، مفردات المحرقة الاجتماعية هي ذاتها لم تتغيّر، وخطوات تنفيذ الجريمة لا تبديل فيها، تحريض وإقصاء ثم تفويض بالقتل.
لم يجف حبر التفويض المجنون الذي طلبه في 26 يونيو 2013 بعد، وها هو الآن يطلب تفويضاً جديداً أو تجديداً للقديم، الأمر الذي يفرض على المواطن المصري أن يفكر بعقله هذه المرة، ما دامت لغة الضمير لم تعد متداولة. اسأل نفسك: منحته تفويضاً قبل عامين ليقتل ويحرق، بحجة حمايتك من العنف والإرهاب المحتمل، فهل كان جديراً بالتفويض، وأهلاً له؟
قلت حين طلب التفويض الأول إنها أول دعوة رسمية للانتحار الجماعي والقفز في أتون حريق قومي شامل، أن يدعو قائد الجيش الشعب للخروج الكبير لتفويضه في مواجهة ما يسميه "العنف والإرهاب".
في ذلك الوقت، أطلق طالب التفويض وصف "الشرفاء الأمناء" لمَن سوف يلبّون دعوته إلى الانتحار، معيداً إلى الأذهان ذكريات مؤلمة، شهدتها مصر خلال عام 2011، حين لجأ المجلس العسكري الحاكم، لأول مرة، إلى استخدام مصطلح "المواطنون الشرفاء"، والذي جرى إشهاره في وجه القوى الثورية في مناسبات عديدة، سالت فيها دماء، وفقئت عيون، وتعمّقت جراح، بدءاً من موقعة العباسية الأولى، مروراً بماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء واستاد بورسعيد.
ولو كنت مصرياً مسيحياً، فلعلك تذكر دعوة التلفزيون الرسمي المتعسكر، في أحداث ماسبيرو، المصريين الشرفاء للنزول لحماية جيشهم من المتظاهرين الأقباط الأوغاد، بالطريقة ذاتها التي حرّض بها المشير طنطاوي الشعب على الشعب في مجزرة بورسعيد، حين قال "هو الشعب ساكت عليهم ليه"، لتكتشف أن أحدث دعوة ليست غريبة عن سياق عام، يقوم على اختطاف قطاعات من الشعب، بعبارات تدغدغ غرائز الخوف والجوع، ثم إطلاقها على بقية الشعب، وصناعة حالة من العداء بينهما.
قالوا في تسويغ الانقلاب إنه لإنقاذ البلاد من جحيم الحرب الأهلية، لكنهم، بعد أيام قليلة، كانوا يغذون ماكينة الاحتراب المجتمعي بكميات خرافية من الوقود المحمول فوق خطاب عنصري، يتفوّق في بشاعته على المكارثية الأميركية في الخمسينيات.
ومن جديد، يلعبون على استثارة مناطق الوضاعة في الشخصية، وترويج مدلولات شديدة الفساد لمفاهيم مستقرة، فيصبح رفض الانقلاب نشاطاً إرهابياً، والتظاهر السلمي خيانة للوطن، إلى آخر هذا الغائط المتدفّق من أفواه استقالت من إنسانيتها وأخلاقيتها.
وما دام الانقلاب يعيد نفسه، فلا بأس من إعادة محاولة الدق على أبواب ونوافذ الضمير الوطني، فنقول إن مصر كلها تواجه مجدداً أعنف اختبار للأخلاق والإنسانية والقيم الثورية التي تجلّت في يناير 2011 وما تلاه.
وفي ظروف كهذه، ليس مطلوباً من كل مواطن مصري سوى الاعتصام بضميره وفطرته الإنسانية السويّة، قبل أن يتخذ قراراً بشأن هذه الدعوة إلى الجحيم، ويسأل نفسه: هل من الوطنية والإنسانية في شيء أن تُساق إلى مقتلةٍ، خصمك فيها هو ابن عمك، أو جارك، أو زميل سابق في الدراسة أو العمل؟

 

 

 

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا