عارضة أزياء في مكتبة

عارضة أزياء في مكتبة

02 مارس 2024
+ الخط -

دخلتُ إلى مكتبةٍ أبحثُ عن كتابٍ، وجدت داخلها فتاة مسؤولة عن المبيعات. لم يرحني أبدًا شكلها وسط رفوف الكتب، فقد بدت رشيقة جدًّا، وأنيقة جدًّا، وواثقة جدًّا من نفسها دون مناسبة، ونظرتها فارغة جدًّا، أي باختصار لقد بدت لي بعيدة جدًّا عن الكتب، لا علاقة لها بها من بعيد ولا من قريب، إلا ببيعها.

ترتسم على شفتيها ابتسامة صفراء، عريضة، مُلصقة على وجهها بشريط لاصق. خمّنت في ذهني أنّها تصلح سكرتيرة لمقاول نصّاب، أو ممرضة في مصحة صغيرة خاصة تطرد الفقراء من غرفة انتظار الطبيب بلطفٍ زائف، أو راقصة خلف واجهة زجاجية لملهى ليلي محترم ترتاده العائلات لتدخين الشيشة. ظلّت تتبعني بين الرفوف بابتسامتها البلاستيكية، محاولةً تشجيعي على شراء الكتب، عارضةً عليّ بعض الكتب التافهة، مطبّقة بدقة تعليمات صاحب المكتبة العابس.

لم أشعر قربها بعلاقتي الحميمة المعتادة بالكتب وبالقراءة، بل شعرت حقًا أنّ كلّ شيء أصبح في قبضة التسليع والتسويق الرخيص المعتمد على الإغراء. لم يبيعوا أيّ كتب منذ مدّة طويلة على ما يبدو، لذا قرّروا جلب عارضة أزياء إلى داخل المكتبة، ربّما أقنعت عددًا أكبر من الزبائن بأن يشتروا كتبًا أكثر مع وعد وهمي بالحب. أقبل كثيرًا، وإن على مضض هذا النوع من التسليع على طريقة الرقص الشرقي لسلعٍ كثيرة، ليس لأنّي مقتنع بتلك السلع، بل لأنّي أحبّ التفرّج على الرقص الشرقي، لكن أن يصل الأمر إلى الكتب، خصوصًا أنّي كنت أبحث عن كتاب في الأبستمولوجيا، فهذا أمر لا يطاق.

كلّ شيء أصبح في قبضة التسليع والتسويق الرخيص المعتمد على الإغراء، حتى الكتب

عرضت عليّ كتاب "لا تحزن" لعائض القرني مع ابتسامة. زاد ذلك من ارتفاع ضغطي الدموي، فإن كنتَ سعيدًا وقرأتَ ذلك الكتاب فستحزن دون شك. فكرت أن أقول لها: اسمعي يا أختاه، هناك طريقة أفضل للتسويق، ستناسب كثيرًا قوامك الرشيق هذا ومشيتك المثيرة وابتسامتك الاستهلاكية الجميلة هذه، ستجلب لكم كثيرًا من الزبائن الذين سيشترون بكثافة كتاب "لا تحزن" هذا، وهي أن تهدموا جدار المكتبة الخارجي، وتستبدلوه بجدار زجاجي شفاف، وأن تقومي طيلة دوامك بالرقص بين رفوف الكتب، حافية، خالعة ثيابك قطعةً قطعةً، ببطء شديد وإثارة... سيبدو مشهد عريك ورقصك بهذه الطريقة قرب رف كتب الفلسفة بالضبط، شديد الإثارة والإغراء بالقراءة على نحو غير مسبوق، ومن هنا أؤكد لك أنّ باب المكتبة لن يسع صفوف القرّاء الذين سيصطفون في الخارج حبًّا في المطالعة.

كنت سأقول لها ذلك كما مرّ في ذهني في ثانية، غير أنّي لعنت الشيطان، إذ بدت لي تنتظر راتبها الشهري أكثر مما يهمها أن تُباع الكتب. أعدت إليها كتاب "لا تحزن" وسألتها: هناك كتاب آخر شبيه جدًّا بهذا الكتاب، عنوانه هو أيضاً "لا تحزن" غير أن كاتبه شخص ٱخر اسمه عادل الميلودي هل أجده عندكم؟ أجابتني: لا، لم أعرف هذا الكاتب، وقد اختفت ابتسامتها. قلت لها: شكراً سأبحث عنه في "يوتيوب" ثم انسحبت.

هل نستطيع فصل فعل القراءة عن النوم؟ عن الحلم؟ أليست القراءة انقطاعًا تامًّا؟ غوصًا في محيطٍ غير مرئي، أمواجه صور ورموز وإشارات؟

دخلت مكتبة أخرى، مكتبة حقيقية هذه المرّة، بالضبط كما تخيّلت دائمًا مكتبة بورخيس التي في السماء أو مكتبة أمبرتو إيكو التي في الأرض: كتب كثيرة وصمت مطلق والمكتبي نائم. نائم وفي يده موسوعة، وعلى عينيه نظارة القراءة المميّزة. قصير وبدين قليلًا، أنيق جدًّا، وله لحية مشذبة بدقة، يتدرج لونها بهدوء شديد من الأسود إلى الرمادي إلى الأبيض. يرتدي طقمًا كاملًا خفيف الزرقة تزيّنه ربطة عنق خفيفة الحمرة، كما لو أنّه ناظر مدرسة بنات بعيدة بين الجبال، تطلّ على الربيع. لم ينتبه إلى دخولي، لم يستدر، لم يحرّك ساكنًا. ظلّت الموسوعة الضخمة بين يديه فوق المكتب، وظلّ مرتاحًا في جلسته الوثيرة تلك. وقفت أمام رف كتب التاريخ وحدّقت فيه بارتياح، حدّقت في المكتبيّ أقصد، هل كان نائمًا حقا؟ أم كان يقرأ باستغراق؟ هل نستطيع في الأصل فصل فعل القراءة عن النوم؟ عن الحلم؟ حتى حين نقرأ كتابًا علميًّا محضًا؟ أليست القراءة انقطاعًا تامًّا؟ غوصًا في محيطٍ غير مرئي، أمواجه صور ورموز وإشارات؟

في كلّ الأحوال لم يزعجني حضور المكتبيّ في مكتبته، بل بدا جزءًا حقيقيًّا من المكتبة، لا تكتمل إلا به ولا يكتمل إلا بها. كان تجسيدًا مثاليًّا للقراءة. تنفّست الصعداء بعمق وغُصت بدوري وسط عناوين الكتب بين الرفوف، تاركًا المكتبي وشأنه. لم أجد الكتاب الذي أبحث عنه، ولم أشتر أيّ كتاب إلا أنّي قرأت مجموعة شعرية صغيرة مترجمة بأكملها أمام رف الشعر. أعدتها إلى مكانها وأعدت كذلك الكتابين اللذين عزمت على شرائهما، إذ لم أجرؤ على إخراج المكتبي من أعماق موسوعته، لم أجرؤ على إزعاجه، لم أجرؤ على كسر لوحة القراءة الأزلية تلك التي جسّدها أمامي، لم أجرؤ على إنزاله من جنّة بورخيس، جنّة كان فيها حتى نواس الساعة صامتًا، يمكنك سماع صمته..

خرجت بهدوء شديد محاذرًا أن لا تزعجه خطواتي. لم يلتفت إليّ، لم ينتبه أيضاً، غير أنّه قلب الصفحة، ليغوص في صفحة أخرى، ومن فرط الصمت والهدوء والسكينة، خلّف داخل أعماقي صوتَ قلب تلك الصفحة أصداء وتموّجات لا نهائية.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.