من ثورة الدستور إلى دستور الثورة

من ثورة الدستور إلى دستور الثورة

22 أكتوبر 2014
تميز الدستور التونسي بمشاركة الشباب الواسعة في تخليقه(الأناضول)
+ الخط -

جلي ومعروف منذ الشرارة الأولى إثر احتراق محمد البوعزيزي، واستجابة مناطق البلاد بتفاوت لهذا النداء، أن الثورة استهدفت الأدوات التي استعملتها الدولة للقمع لا الدولة ذاتها، "مراكز الأمن، مقرات الحزب الحاكم"، مما ترك النظام السياسي الذي يحتل الدولة في حالة من العزلة.

يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، نزل قطاع شاسع من الشعب التونسي محتجا على القتل وسياسات القمع والنهب والمحسوبية والفساد، ففر رأس هرم الدولة ولم تنهر الدولة، بل بقيت تمارس غالب مهماتها الحيوية بشكل تلقائي.

لم يكن ذلك الحراك المتسارع ناجماً عن تخطيط أو تنظيم مسبق من طرف أحزاب أو منظمات، لذلك بدت الثورة في ظاهرها يتيمة من دون جهة بعينها تنتسب إليها، ومن المهم أن نشير إلى أن الثورة لم تكن في أجندة أي حزب من أحزاب النضال ضد الاستبداد، حيث كانت السقوف السياسية، حتى أكثرها راديكالية، تقوم على النضال السياسي المدني لافتكاك أوسع هامش من الحريات والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية، لذلك لم يكن شركاء النضال ضد الاستبداد مهيأين لتسلم الحكم في الفترة التي أعقبت هروب رأس النظام، فانتقل الحكم بالشكل الذي يقتضيه الدستور القائم في حالة وفاة الرئيس أو استقالته وتواصل النظام نفسه الذي ثار عليه عموم الشعب التونسي.

وأعقب ذلك عملية استئناف سلمي لمسار الثورة من خلال اعتصام مندوبي الجهات الثائرة في قصر الحكومة في القصبة، حيث وقع إجهاض الاعتصام الأول، فأعقبه اعتصام ثان شاركت فيه الأحزاب والجمعيات بكثافة، وكانت مطالبه الرئيسية إسقاط حكومة رئيس وزراء المخلوع وإنجاز انتخابات مجلس تأسيسي.

إلى هذا الحد من التشخيص نجد أنفسنا أمام حقيقة موضوعية تحيل إلى جوهر خصائص الحراك الثوري في تونس، وعلاقته بمفهوم الثورة ومساراتها، بما هي تفكيك لمنظومة قديمة متدهورة، وبناء منظومة جديدة محققه لطموحات الثوار. ومن هذا المدخل يمكن اعتبار ما وقع في تونس متميزا عن ثورات العنف القائمة على الاستئصال الدموي لجزء من المنظومة القديمة، لتيسير بناء منظومة جديدة على أنقاضها، بينما كان خيار التّونسيين انتهاج خيار ثورة القوة، حيث يقوم هذا الجنس من الثورة على قوة التعاقد، الذي يؤسس بشكل اتفاقي تواضعي سلمي لمنظومة سياسية جديدة.

لم تخل الفترة التي سبقت المصادقة على الدستور من تجاذبات بين تيار شبابي ضعفت ثقته في التعاقد والتأسيس التعاقدي، وأراد فرض شرعية ثورية جديدة تولدت مع فاجعة اغتيال المناضل شكري بلعيد، وترسخت مع اغتيال رفيقه الحاج محمد البراهمي، في مقابل تيار شبابي آخر بقي مدافعا عن التعاقد باعتباره مدخلا لتأسيس إجماع سياسي جديد، يقطع مع المنظومة القديمة بشكل جذري. وكان الحوار الوطني إطارا لإيجاد توافقات ترضي التيارين، لتجاوز منطق الانقسام والمغالبة.

وفي المحصلة، يمكن القول إن ما وقع في تونس من حراك تتوفر فيه الشروط السوسيولوجية للثورة، من خلال حدث نوعي أعقبته انتفاضة شبابية شعبية عارمة أفضت إلى مسار فتح المجال لتأسيس سلمي لمنظومة سياسية جديدة، عبر تعاقد توافقي جامع ضامن لحقوق جميع المكونات الوطنية ومحقّق لمطالب الثورة. لذلك يمكن إطلاق صفة ثورة دستور على مسار الثورة التونسية، ويمكن اعتبار دستورها دستور ثورة جسد على الورق كل مطالب وطموحات الشعب التونسي، وتميزه مشاركة الشباب الواسعة في تخليقه، وتعبيره عن قضاياهم، وانتقل منذ التوافق عليه إلى التفعيل المباشر والعملي من خلال الهيئات التعديلية في مختلف القطاعات والمجالات.

ويبقى الرهان اليوم على الانتقال التدريجي العقلاني والجذري بهذا التعاقد من حيز المنشود إلى حيز الناجز، لتجسيد مفهوم الثورة بما هي سيرورة تفكيك وبناء.

المساهمون