من انغريد إلى دورا

10 أكتوبر 2014
من غلاف لنصوص جمعتها له "دار غاليمار"
+ الخط -

في روايته "دورا برودر" (1997)، أو "مذكرة تفتيش"، ثمة إعلان قديم في جريدة لفت انتباه باتريك موديانو: "منذ ثماني سنوات. في صحيفة قديمة، باريس المساء، وتاريخها 31 ديسمبر 1941، وقعت في الصفحة رقم ثلاثة على زاوية عنوانها "من الأمس إلى اليوم". قرأت أسفل هذا العنوان: "نبحث عن فتاة، دورا برودر، 15 عاماً، متر و55 سنتمتراً، الوجه بيضاوي، العينان رماديتان-بنيتان، معطف رياضي رمادي، كنزة خمرية، تنورة وقبعة بلون أزرق بحري، حذاء رياضي بني؛ أرسلوا المعلومات إلى السيد والسيدة بوردر، 41 ضاحية أورنانو، باريس".

يظهر إعلان مشابه لهذا في روايته "شهر العسل"، التي ظهرت عام 1990: "نبحث عن فتاة، انغريد تيرسين، 16 عاماً، متر وستين سنتمتراً، الوجه بيضاوي، العينان رماديتان، معطف رياضي عنابي، كنزة بلون أزرق فاتح، تنورة وقبعة بيج، حذاء رياضي أسود؛ أرسلوا المعلومات إلى السيد تيرسين، 39 ضاحية أورنانو، باريس".

من دون أن تكونا توأمين، انغريد ودورا شديدتا الشبه: مع فرق عام وخمسة سنتمترات، الملابس نفسها تقريباً، لكن الألوان تغيرت قليلاً. يمكن اعتبار "شهر العسل" فترة رومانسية من حياة دورا برودر. إنها تقدّم لنا راوياً يختار أن يختفي ويختبئ في فندق "لا بورت دوريه". يسمع الراوي صدفةً بانتحار انغريد تيرسين، التي كان التقاها وزوجها قبل 18 عاماً، مطلع التستينيات. كانت نقود الرواي قد سُرقت، وآواه الزوجان بضعة أيام في شقتهما الصغيرة، حيث كانت انغريد وزوجها لاجئين فارين من باريس سنة 1942. وفي إحدى أمسيات نوفمبر من 1941، كانت انغريد عائدة إلى بيت والدها الطبيب اليهودي النمساوي، في ضاحية أورنانو، حين انتابتها مخاوف لا مبرر لها وهي تقترب من المنزل، فانعطفت وقامت بنصف دورة في المكان ثم مشت باتجاه الغرب ودخلت أحد المقاهي. هذه الهواجس الغامضة أنقذت حياتها، إذ راودتها قبل وقت قصير فقط من اعتقال والدها واقتياده إلى جهة ظلت مجهولة. 

الروايتان تتقاطعان في أنهما تأخذان من المصدر نفسه: الإعلان في الجريدة؛ بل طلب البحث عن أحد ما من خلال الجريدة. بعض التفاصيل كما قلنا متشابهة: الفتاة والعمر، الزمن، الخطر الكامن في المقاطعة 18 في باريس. لكن القارئ الذي لم يعرف هذا الأمر عن العملين، يمكنه أن يقرأ كل منهما دون الحاجة إلى الآخر.

هذه الطريقة في السرد تستجيب لمخطط "موديانويّ" أصبح معروفاً بما يكفي. إنها تلك الطبقات الزمنية المؤقتة التي تتداخل وتتجاوب وتؤرجح اهتمام القارئ بين قصة الرواي وقصة انغريد. فالرواية ليست عن قصة انغريد وحسب. وإن كانت العلاقة بين روايتي "شهر العسل" و"دورا برودر" غير صارخة، فذلك لأن انغريد نجت من الحرب، على عكس دورا.

في "شهر العسل"، يحتال الكاتب ويلعب بالواقع، بأن يعطي حياة لبطلته دورا (صدرت الرواية سنة 1997)، التي سنعرف أنها ماتت بعد سبع سنوات من حياتها، من خلال شخصية انغريد (صدرت الرواية سنة 1990). لكن جهد موديانو يبدو مثيراً للسخرية، لأن انغريد لم تتغلب على شعورها بالذنب تجاه التخلي عن والدها، وتنتهي هذه الفرصة التي منحها لها موديانو بأن تنتحر.  

في "دورا برودر" يعود موديانو لأثر إعلان البحث عن دورا ويعود للقرابة بين النصّين. لكنه كتب رواية "شهر العسل" لمقاومة النسيان.

"في ديسمبر 1988، بعد أن قرأت إعلان التفتيش عن دورا بوردر في باريس المساء ديسمبر 1941، لم أتوقف عن التفكير بها لشهور وشهور. الدقة الشديدة لبعض التفاصيل طاردتني: 41 جادة أورنانو، متر وخمسة وخمسين سنتمتراً، عينان رماديتان-بنيتان (...) والليل، المجهول، المنسي، والعدم في كل مكان. بدا لي أنني لن أتمكن أبداً من العثور على دورا. هذا الفقدان الذي اختبرته أجبرني على كتابة رواية "شهر العسل". كانت طريقة من بين عدة طرق أخرى للاستمرار في تركيز انتباهي على دورا بوردر، وربما، قلت لنفسي، أستطيع أن أضيء شيئاً عنها، أو مكاناً مرت فيه، أو تفصيلاً من حياتها. وأنا أجهل كل شيء عن والديها وعن ظروف هربها".

هذا الاقتباس من الرواية صادم، ولا يفتقر إلى المواجهة مع القارئ. في الحقيقة، المسألة ليست مسألة أن تتخيل، أن تبتكر وأن تبدع أدباً ينطلق من الواقع، لكنها محاولة استكشاف، أن "يضيء" شيئاً عنها، أو أن يخمن تفصيلاً من حياتها أثناء سير الكتابة الإبداعية. فجأة يتغير الهدف. فهو لم يعد يتعلق بابتكار الحكايات ولا روايتها، ولكن من خلال هذا الكذب الحقيقي الذي يسلكه الأدب والذي يقترب من أن يكون وسيطاً للحقيقة. هذا يقودنا إلى وظيفة متناقضة لأدب "الشهادة" بدل مَن لا يمكنهم تقديم الشهادة عن أنفسهم مباشرة. تجربة صعبة وخطرة.

"أدرك الآن أنه كان علي أن أكتب مائتي صفحة لألتقط، دون وعي، انعكاساً ضبابياً للواقع. هذا يقال ببضعة كلمات: "توقف القطار في محطة ناسيون... على مخرج المترو (...) وصلوا إلى حقل كبير من الثلج... بينما زلاجة تقطع الطرق الصغيرة لتصل لجادة سول". هذه الطرق الصغيرة المجاورة لطريق  بيكبوس ومدرسة سان كور دو ماري الداخلية، حيث لا بد أن دورا برودر هربت ذات مرة في أمسية من ديسمبر حين كان الثلج يسقط على باريس. إنها اللحظة الوحيدة من الكتاب التي، دون أن أعلم، اقتربت من دورا في المسافة والزمن."

في هذا الازدواج الأدبي المثير للفضول بين الروايتين، تمثل فيه دورا قصة تحقيق جنائي عن لغز اختفاء هذه المراهقة. ثم يتحول النص أكثر فأكثر إلى الكتابة عن اختفاء مزدوج، اختفاء دورا، ووالدها. بينما تشكل رواية "شهر العسل" المصير الأدبي الطبيعي للشخصيتين في عالم موديانو.

ويبدو أن "شهر العسل" هي تحقيق أولي وأدبي لحل لغز اختفاء انغريد، تبعه تحقيق منقح في "دورا برودر". ولكن ليس هناك شك في أن الروايتين محاطتان بالغموض. تلك التي تمثل القصة الحقيقية دورا/انغريد، وتلك التي يرويها موديانو. فأما أن يكون النصان روياتين وبالتالي فإن مسألة "القصة الحقيقية" ليس لها شأن، أو أن دورا برودر هي وثيقة أكثر واقعية من "شهر العسل".

في عمل "شهر العسل"، يجد القارئ نفسه فوراً في نص يعرفه، مصنف ضمن "رواية لموديانو": التأليف على شكل طبقات زمنية، الشخصيات الغامضة مثل شخصية الرواي، رجل مفقود ثم امرأة هاربة. أما في "دورا برودر"، فالأمر مختلف، إذ يشعر القارئ على الفور أنه أمام نص أدبي مختلف عن موديانو. هناك إعلان البحث عن دورا وشهادة ميلادها وملف عسكري لإرنست برودر والدها وعقد زواج الأبوين وتقرير عن مقاسات الدفن وتقارير شرطة. كل هذه الوثائق تفيد بأن هذه الرواية شهادة لعمل تأريخي قام به موديانو لحكاية هذه الفتاة. إذاً فهل من الممكن اعتبار "دورا برودر" شاهداً تاريخياً على حادث اختفائها في عمل موديانو؟

* مقطع، بترجمة نوال العلي، من كتاب هيلين مولر "البنوّة وكتابة التاريخ"

دلالات
المساهمون