مطلوب مؤتمر فيينا وليس وستفاليا

22 ابريل 2015
+ الخط -

حذر محللون من أن المنطقة مقبلة على حرب مذهبية، مثل حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، فكانت دعوتهم إلى ضرورة الالتزام بمبادئ اتفاقيات وستفاليا لعام 1648. ينطلق هؤلاء من أن إيران الشيعية، وحلفاءها المذهبيين من قوات الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان والنظام في سورية والحوثيين في اليمن، يتواجهون في معارك طاحنة، مع دول وقوى سنيّة، مسارحها تمتد من سورية والعراق إلى اليمن. وهم يعتبرون أن هذه المعارك قد تتطور إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، مع استمرار الاستقطاب المذهبي بين السنّة والشيعة، والذي يشبّهونه بصراع الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا الوسطى، في القرنين السادس والسابع عشر. لكن، ربما كان على المحللين أن يراجعوا تقديراتهم، وأن يركزوا أكثر على حقبة أخرى من التاريخ الأوروبي، حفلت بالحروب والمواجهات، وانتهت بسلام دام حوالى مائة عام.

أحدثت ثورة عام 1789 التي حطمت النظام القديم في فرنسا اضطراباً هائلاً في عموم أوروبا. وعقب إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت، تداعى ملوك أوروبا لإعادة الملكية إلى فرنسا، إلا أن قوات الثورة الفرنسية قهرتهم. ولاحقاً، أسس ابن الثورة نابليون بونابرت الإمبراطورية الفرنسية التي سعت إلى فرض "نظام أوروبي جديد" يدار من باريس. اجتاح بونابرت، في العقد الأول من القرن التاسع عشر، الدول الألمانية والإيطالية والأراضي المنخفضة وإسبانيا وبولونيا، محولاً قوى كبرى من الدرجة الأولى إلى توابع لفرنسا (النمسا وبروسيا)، وأقام محميات دائرة في فلك الإمبراطورية الفرنسية (جمهورية باتفيا في هولندا، ومقاطعة إيليريا ودوقية وارسو العظمى، مثلا)، وقلب حكامها عن عروشهم، مستبدلاً بهم أقرباءه وجنرالاته. وباستثناء النمسا وبريطانيا، قابلت الدول الأوروبية مشروع بونابرت، على الأقل في بدايته، بعدم اكتراث، وفضلت، في أحيان كثيرة، مصادقة الفرنسي الذي لا يقهر، على قتاله.

وتبدو فترة عدم الاستقرار التي ضربت المنطقة، عقب الثورة الإيرانية (1979)، شديدة الشبه بالتي هزت أوروبا إبّان الثورة الفرنسية، فثورة إيران التي رفعت شعار تصدير الثورة خاضت حرباً ضروساً مع جيرانها (حرب الثماني سنوات مع العراق المتحالف مع دول الخليج العربي والأردن ومصر)، كما أسست "أحزاب الله" في لبنان والكويت والسعودية.

ووجدت إيران في المرشد، علي خامنئي، القائد الذي كرس جلّ نشاطه ودهائه، من أجل تأسيس إمبراطورية جديدة، تقيم نظاماً إقليمياً يعزز أمنها الوطني ومصالحها، تحت ستار شعارات "المقاومة". وبإشراف من خامنئي، نفذ الحرس الثوري عملية طويلة الأمد لتوسيع نفوذ إيران الإقليمي، وزعزعة استقرار خصومها. ترافقت تلك الاستراتيجية، في مرحلتها الثانية، مع إطاحة واشنطن حكمي طالبان وصدام حسين في أفغانستان والعراق. وفي الثالثة، مع مجريات الربيع العربي والأزمة السورية وبروز تنظيم داعش، أسفرت عن تبوؤ طهران موقع القوة الإقليمية الأولى في الشرق الأوسط. وتحول حزب الله، الابن الشرعي للثورة الإيرانية، إلى القوة المسيطرة على القرار اللبناني، عقب خروج الجيش السوري من البلاد عام 2005، وتكرس الأمر عقب حرب يوليو/تموز مع إسرائيل 2006. أما العراق، فقد عززت إيران نفوذها فيه مع تولي نوري المالكي الحكم، وأطبقت هيمنتها عليه بانسحاب الجيش الأميركي من الأراضي العراقية 2011.

وكانت السفارة الإيرانية والمستشارية الثقافية في سورية تصول وتجول في البلاد، حتى في الفترة السابقة على اندلاع الثورة عام 2011. ووضع مستشارون إيرانيون خطة النظام لمكافحة الاحتجاجات، وساهموا في تطبيقها، ومدوا مخابرات النظام بالتكنولوجيا اللازمة لمراقبة الحشود وضبطها. ولاحقاً، أرسلت إيران خبراء عسكريين لتأسيس مليشيات الدفاع الوطني (الباسيج السوري)، بالترافق مع حشد قوات من أفغانستان والعراق ولبنان وباكستان، لتكون العمود الفقري لجهد جيش النظام الحربي. واجتاز التدخل الإيراني في مواجهة قوى الثورة السورية قيادة العمليات إلى إصدار فتوى من خامنئي، تسمح بإرسال المتطوعين الإيرانيين (!) لمقاتلتها مباشرة.

وفي اليمن، كادت الثورة التي أطاحت علي عبدالله صالح، ومبادرة الحل الخليجي، أن تنسفا المشروع الإيراني هناك، إلا أن إيران والنظام السوري (مع وجود دور خفي للإمارات) عقدا تفاهمات بين صالح والحوثيين، أثمرت عن اجتياح الحوثي صنعاء والتوجه صوب عدن. وهكذا، وصلت إيران إلى ذروة مشروعها في المنطقة. وبعد الذروة يبدأ الانحدار. وربما كان الفارق أن مشروع بونابرت انهار نتيجة انكسار صاحبه في ثلوج روسيا (على الرغم من أن وجود متربصين داخليين يترقبون سقوطه عجّل في إنهاء الإمبراطورية الفرنسية). أما المشروع الإيراني، فإن عوامل انهياره مرتبطة بداخل إيران، وبصحوة القوى الإقليمية لمخاطره الجسيمة على أمنها.

وكما الدول الأوروبية إبّان عصر بونابرت، تعاملت القوى الإقليمية، باستثناء السعودية، بعدم اكتراث مع المشروع الإيراني، وفضلت التعاون مع طهران في منعطفاتٍ كثيرة، لأسباب نفعية خاصة. وبالإمكان القول إن ضغط طهران المتواصل وحده نجح في توحيد نظرة الدول في المنطقة لخطر "الهيمنة الإيرانية"، وتشكل مصر على عهد عبد الفتاح السيسي أبرز مثال في هذه الحالة. فحتى ما قبل الهجوم الحوثي على عدن، كانت القاهرة تتعامل باستخفاف مع التحذيرات الخليجية من مساعي إيران للهيمنة الإقليمية. وبالعكس، اعتبر المسؤولون المصريون أن النفوذ الإيراني في الهلال الخصيب ليس ضاراً بدرجة كبيرة على أمن بلادهم، بل يمكن أن يكون في فائدتها. وتصور هؤلاء أن الوجود الإيراني يمكن أن يقف سداً منيعاً في وجه الطموحات التركية والإخوانية في سورية، ويحارب تطرف داعش في سورية والعراق. وربما اغتبطوا، لأن النفوذ الإيراني يضغط على إسرائيل والسعودية ودول الخليج، بما يدفعها للارتماء بالحضن المصري. ثم دقت عدن إسفيناً بين إيران ومصر، وجاءت مشاركة القاهرة في تحالف "عاصفة الحزم" لتضع الدولتين في موقعي نقيض.

وحتى السعودية حولت محور تركيزها في العامين الماضيين عن إيران، باتجاه مطاردة جماعات الإخوان المسلمين والنفوذين التركي والقطري، ثم أدى التمدد الإيراني إلى تنسيق تركي سعودي، هدف إلى مواجهته في سورية والعراق، وإلى إعراب أنقرة عن رغبتها في تقديم دعم سياسي ولوجستي، لانتصار تحالف "عاصفة الحزم". ويبدو هذا التنسيق ناشزاً وغريباً، لأنه يأتي بعد توتر عميق، طال العلاقات بين الدولتين على خلفية الوضع في مصر، ولأن السعودية لعبت دوراً كبيراً في حرمان أنقرة من العضوية المؤقتة في مجلس الأمن الدولي!

للوهلة الأولى، يبدو أن المطلوب لاستقرار المنطقة تطبيق مبادئ اتفاقية وستفاليا حول السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خصوصاً أن إيران لا تحترم هذه المبادئ، وتزرع المنطقة بمليشيات طائفية، في تدخل سافر بشؤون دولها، إلا أن ذلك أمر مضلل بشكل كامل. فالمطلوب لسلام المنطقة واستقرارها هو تصفية مشروع الهيمنة الإيرانية وأذرعه الإقليمية، وإدماج إيران الدولة في حوار إقليمي للأمن. فالحقيقة الواضحة أن السنة والشيعة تعايشوا في الهلال الخصيب والمنطقة العربية، وما حصل بينهم من أزمة مفتعلة في العصر الراهن سببه مساعي إيران، لتصدير ثورتها غطاء لمشروعها في الهيمنة على المنطقة. فعندما يتم التخلص من النزعة الثورية الإيرانية التي تسعى إلى تعديل هيكليات النظام الإقليمي القائم عبر التلاعب بتركيبة الدول المشكلة له، ستهدأ التوترات السنية الشيعية في المنطقة.

ويغدو عقد مؤتمر إقليمي، أو دولي، مشابه لمؤتمر فيينا عام 1815 الذي أنيطت به مهمة تصفية الإمبراطورية الفرنسية، وإدماج فرنسا في نظام توازن القوى الأوروبي، أمراً في غاية الضرورة، من أجل إنهاء الأزمة الإقليمية الممتدة منذ اندلاع الثورة الإيرانية.

فالثوري الذي لا يلاقي سوى الخطابات لصده، يجد سبيله مفتوحاً أمام قلب النظام القائم، ولا يدري أصحاب الخطابات ما جرى، إلا عقب تفكك عرى النظام (الإقليمي)، وحلول الفوضى، التي يعتبرها الثوري العنصر الأساسي لبناء النظام الجديد، لا وفق الموازين التاريخية والسياسية والاجتماعية التي يحتقرها، بل بحسب تصوراته وعقائده. وتحالف "عاصفة الحزم" إذا ما انضمت إليه تركيا وباكستان، وعمل على تزخيم دعمه العراقيين والسوريين، فإن في وسعه إنشاء نظام إقليمي، يضبط الطموحات الإيرانية ويحتويها، ريثما تطيح التغييرات داخل إيران النزعة التعديلية الثورية.