مخاطر سد النهضة كارثية على مصر

31 يوليو 2020
+ الخط -

بطريقة ملتوية ومخادعة تراوحت بين الإثبات والنفي، أنهت إثيوبيا عملية الملء الأول لخزان سد النهضة، بإجراء منفرد من طرفها من دون تنسيق أو اتفاق مع طرفي الأزمة، مصر والسودان، ومن دون اعتبار للمفاوضات الجارية برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، والاتحاد الأفريقي.

وكشف وزير الخارجية، غيدو أندارغاشيو، في تصريحات مستفزة تفتقر إلى الرزانة والدبلوماسية، عن سعي إثيوبي لنقض القواعد التاريخية والأطر القانونية المنظمة للعلاقات المائية في حوض النيل، وفرض واقع جديد يقوم على الانتصار الظرفي الذي حققه المفاوض الإثيوبي المخادع.

فأعلن عن أن نهر النيل أصبح بحيرة إثيوبية محلية، وهاهو "النيل ملك لنا". وادعى غاشيو أن مصر ظلت لسنوات طويلة تبذل جهودا لحرمان دولة المنبع من الاستفادة من نهر النيل، وأن "هذه الدولة" ظلت تتبنى هذه الرؤية كهدف، وأن هذا الأمر "لا نجد له مثيلا في العالم"، وأن "ما قمنا به من بناء سد النهضة هو بمثابة تغيير هذه الرؤية والأهداف، وأحدثنا تغييرا في التاريخ والجغرافيا السياسية للمنطقة".

ورغم ما تنطوي عليه تصريحات وزير الخارجية الإثيوبي من ادعاءات مغلوطة، وإنكار لمبادئ القانون الدولي المنظمة لمياه الأنهار الدولية، وتحكم في مياه نهر دولي بطريقة منفردة تهدد حياة 104 ملايين مصري، التزم الجنرال عبد الفتاح السيسي ضبط النفس في مواجهة التصرف الإثيوبي الذي يعتبر إعلان حرب بمفهوم الأمن القومي، واكتفى بالتأكيد على استمرار التفاوض السلمي.

بدلاً من التنديد بالإجراءات الإثيوبية المنفردة، وخطورتها على الحياة في مصر وتهديدها السلم والأمن في الإقليم، قالت وزارة الري المصرية على لسان متحدثها الرسمي إن مصر "لم تتأثر بالتعبئة الأولية لسد النهضة الإثيوبي، لأنها تعتمد على مخزون احتياطي في بحيرة ناصر"، وهو تصريح شاذ ومغلوط لا نسمعه إلا من المسؤولين الإثيوبيين المنحازين.

ذلك أن مصر تعاني بالفعل من آثار السد منذ سنوات. فتم تعديل قانون الزراعة في 2018 لتخفيض مساحة محصول الأرز، المحصول الغذائي الثاني بعد قمح الخبز من مليوني فدان إلى 750 ألف فدان فقط، وتجريم المخالفين بالسجن 6 أشهر وغرامة 20 ألف جنيه، فتحولت مصر جراء هذا القانون من دولة مصدرة للأرز بمعدل مليون طن إلى مستوردة له بمعدل 800 ألف طن، وارتفع سعر الكيلو من جنيه ونصف في منظومة البطاقات التموينية إلى 10 جنيهات، ثم ألغي من المنظومة برمتها.

وأعلن الجنرال السيسي أن الحكومة أنفقت 200 مليار جنيه لإنشاء محطات لتحلية مياه البحر، ورغم تأكيدنا على عدم جدواها في حل أزمة شح المياه الناتجة عن السد الإثيوبي، أعلن السيسي أنها سوف تزيد إلى تريليون جنيه، ألف مليار جنيه. هذه المليارات تم اقتطاعها من موازنة الصحة والخدمات وظهر أثرها في عجز الدولة عن مواجهة فيروس كورونا المستجد، ما تسبب في موت الأطباء بسبب غياب الأدوات الطبية.

لا يمكن إحصاء مخاطر سد النهضة على مناحي الحياة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية من دون تضافر مراكز البحوث المتخصصة في قوانين المياه الدولية، والبحوث الزراعية والأمن الغذائي، والموارد المائية، وهندسة السدود، والاقتصاد والإحصاء، والبحوث الاجتماعية والجنائية، والصحية والبيئية في الدول الثلاث، وهو ما أوصت به اللجنة الدولية لتقييم دراسات آثار السد في تقريرها الصادر في 31 مايو 2013، ولم يتم تنفيذه حتى الآن.

غير أننا نستطيع أن نتنبأ ببعض هذه المخاطر في ضوء ما رشح من معلومات. حيث رفضت إثيوبيا اقتراحا مصريا بالحصول على 40 مليار متر مكعب من إجمالي 49 مليارًا هي حجم مياه النيل الأزرق، لكن إثيوبيا رفضت المقترح المصري وأصرَّت على 31 مليارًا فقط، ما سيؤدي، وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلا، إلى اقتطاع 19 مليار متر مكعب من حصة مصر المائية التي لا تعترف بها إثيوبيا، لملء الخزان الذي يسع 75 مليارًا، بالإضافة إلى 25 مليارا أخرى سوف تفقد في الفوالق الأرضية.

سيتم تعويض العجز في حصة مصر من المخزون الحي لبحيرة ناصر الذي سينفد في غضون ثلاث أو أربع سنوات، على أقصى تقدير، وستكون مصر معرّضة للخطر في سنوات الجفاف كما كان الحال قبل بناء السد العالي. وتتوقف توربينات توليد الكهرباء التي تنتج 1800 ميغاواط.

يقول سامح شكري، وزير خارجية مصر، في خطابه إلى مجلس الأمن، إن انخفاض حصة مصر من مياه نهر النيل بمقدار مليار متر مكعب فقط سيؤدي إلى فقدان 300 ألف فدان من أخصب أنواع الأراضي الزراعية في العالم، وفقدان 200 ألف أسرة لمصدر رزقها، وكذا فقدان وخسارة قدرها 430 مليون دولار في الإنتاج الزراعي، وزيادة كلفة الاستيراد إلى 19 مليار دولار، وهو ما لا تطيقه موازنة الدولة الغارقة في الديون الخارجية والداخلية.

انخفاض حصة مصر من 55.5 مليار متر مكعب إلى 35 مليارا سيصيب الحياة في مصر بالشلل، و"هنشوف نهر النيل زي ملعب الكورة" وفق تعبير الدكتور علاء النهري، نائب رئيس هيئة الاستشعار عن بُعد، التابعة لوزارة البحث العلمي في مصر، والذي أشرف على دراسة علمية للآثار السلبية لسد النهضة الإثيوبي على مصر، وتوصل إلى أن فقد 4.5 مليارات متر مكعب سوف يؤدي إلى تبوير مليون فدان، وفق تصريحه لصحيفة الوطن في 19 يناير/كانون الثاني 2016، ولم تظهر الدراسة حتى الآن ومنع الرجل من الظهور الإعلامي.

أي أن مصر سوف تفقد من 3 إلى 4 ملايين فدان من الأراضي الزراعية، وفق دراسة النهري. ويفقد ثمانية ملايين مزارع يعيلون 32 مليون مواطن مصدر قوتهم. وقد شاهدنا معاناة عمال الزراعة اليومية عندما انقطعت أرزاقهم بسبب أزمة كورونا، فكيف بأصحاب المزارع التي ستحرم من مياه النيل ويجف زرعها؟

الموارد المائية المتناقصة ستعجز أيضا عن تلبية احتياجات المحاصيل من مياه الري فتنخفض الإنتاجية الفدانية، أو يتم تبوير الأراضي جزئيا، بحيث تُزرع شتاء وتتوقف عن الزراعة صيفا. وفي هذه الحالة، يصبح تجريف الأراضي الزراعية والتغول العمراني عليها أمرا واقعا. وتفقد مصر الأرض الزراعية إلى الأبد.

وسيحدث عجز في إمدادات المياه لأغراض الشرب والصناعة نتيجة انخفاض منسوب المياه في نهر النيل والترع الفرعية عن مآخذ محطات مياه الشرب، وهو ما حدث بالفعل في السودان الأسبوع الماضي، حيث توقفت محطات الشرب تماما بسبب انخفاض منسوب المياه بفعل احتجاز إثيوبيا أثناء الملء الأول للسد.

وتتراكم الأملاح في الأراضي الزراعية وتتدهور إنتاجيتها أيضا، وتزحف مياه البحر المتوسط تحت الخزان الجوفي في شمال الدلتا، ما يسبب تدهور جودتها وإنتاجيتها. وينخفض منسوب المياه الجوفية بنحو 3 أمتار، ما يزيد من تكلفة رفع المياه وري المحاصيل. وتخسر المزارع السمكية 75% من إنتاجها بسبب تلوث المياه في النيل والترع والمصارف، وتتوقف الملاحة النهرية.

هذا في حالة استخدام إثيوبيا مياه النيل الأزرق في توليد الكهرباء فقط. أما إذا استخدمتها في أغراض أخرى للتخزين والتحكم، أو للزراعة، فإن الحياة في مصر سوف تكون جحيما لا يطاق. وقد صرح وزير الخارجية الإثيوبية بامتلاكهم نهر النيل وتحويله إلى بحيرة، ما يعني استخدام المياه في الأغراض الزراعية.

موقف
التحديثات الحية

تعاني مصر منذ ما قبل أزمة سد النهضة، ندرة شديدة في المياه وعجزا مقداره 45 مليار متر مكعب. ويتم تعويض هذا العجز، البالغ 45 مليار متر مكعب، بإعادة تدوير مياه الصرف الزراعي والصحي، وإعادة استخدامها في الزراعة عدة مرات، وهو من أعلى معدلات تدوير المياه في العالم.

وتعاني منذ ما قبل الأزمة من فجوة في إنتاج المحاصيل الزراعية بسبب شح المياه، وتعوضها باستيراد 13 مليون طن من القمح، و9 ملايين طن من الذرة الصفراء، و95% من زيوت الطعام، وتستورد 60% من اللحوم، و70% من سلتها الغذائية. وبلغت فاتورة الواردات الغذائية السنوية لها 12 مليار دولار، حسب تصريح محافظ البنك المركزي، طارق عامر، في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2017.

مخاطر اجتماعية وبيئية 

في سنة 2015، أعد الباحثون في مركز البحوث الزراعية ومعهد بحوث المياه، دراسة عن آثار سد النهضة على النسيج الاجتماعي للشعب المصري. وكشفت الدراسة عن أن نقص حصة مصر من مياه النيل سيؤدي إلى تفكيك الاستقرار الأسري، ويهدد النسيج الاجتماعي للشعب المصري بزيادة المشاكل الزوجية والعنف الأسري، وارتفاع معدلات الطلاق.

وكذلك يؤدي إلى زيادة الفجوة الغذائية وارتفاع أسعار الغذاء، ومعدلات الفقر الريفي، والذي تتخطى نسبته 70% في محافظات صعيد مصر، و60% في محافظات الوجه البحري، وزيادة جرائم السرقة والعنف. وكذلك زيادة البطالة، وزيادة معدلات هجرة الريفيين الداخلية إلى المدن، والخارجية إلى دول الجوار العربية، ليبيا والسودان، وزيادة موجات الهجرة غير الشرعية إلى دول الاتحاد الأوروبي.

ويزيد معدلات التلوث في نهر النيل والترع والمجاري المائية، إلى تراجع المناعة الذاتية، وارتفاع نسب الإصابة بالأمراض، التي تؤثر على الصحة العامة للمصريين وتزيد تكلفة الإنفاق على العلاج، رغم ارتفاع معدلات الفشل الكلوي وأمراض الكبد والسرطان إلى مستويات عالمية قبل بدء الأزمة.

ادعت إثيوبيا أن ملء خزان السد تم وفق إعلان المبادئ الذي وقعه الجنرال السيسي في مارس/آذار 2015. ما يتطلب من السيسي أن يسحب توقيعه على هذا الاتفاق، ويعلق التفاوض الجاري حتى لا يعتبر إقرارا بالتصرف الإثيوبي المنفرد، ثم يرفع الملف لمجلس الأمن تحت البند السابع لتهديده للسلم والأمن، والتمسك بالتفاوض على قواعد جديدة تجنب مصر آثار السد الكارثية، وفق تعبير سامح شكري في خطابه إلى مجلس الأمن.

المساهمون