أي استراتيجية لمصر تجاه حوض النيل؟

أي استراتيجية لمصر تجاه حوض النيل؟

27 يناير 2018
+ الخط -
لعله لا مبالغة في القول إن العلاقات المصرية الإثيوبية في أسوأ أوضاعها منذ عقود، بسبب سد النهضة، وتعنت الجانب الإثيوبي في الاستجابة للمطالب المصرية، ابتداء من وقف بناء السد إلى حين انتهاء المكاتب الاستشارية من الدراسات الخاصة بتأثيراته المختلفة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مرورا برفض أديس أبابا تشكيل لجنة دولية لمتابعة هذه الدراسات، بدلا من اللجنة الوطنية التي يمكن أن تنحاز ضد مصر، وصولا إلى رفض التشاور بشان فترة الملء الأول لخزان بحيرة السد، أو إشراك القاهرة في عملية إدارته.
وإذا كانت الإدارات المصرية السابقة، خصوصاً إدارتي أنور السادات وحسني مبارك، مسؤولة بالأساس عن هذا التوتر في العلاقة مع أديس أبابا، فإن إدارة عبد الفتاح السيسي زادت التوتر، بداية من قبول فكرة اللجنة الوطنية، مرورا بتوقيع اتفاقية الخرطوم (مارس/ آذار 2015)، والتي لم تكتف فقط بالاعتراف بحق إثيوبيا في بناء السد، وإنما بعدم النص، للمرة الأولى، على حقوق مصر المكتسبة في نهر النيل، والتي تقدر بـ 55.5 مليار متر مكعّب سنويا.
دفع هذا التعنت الإثيوبي منذ مشاورات اتفاقية عنتيبي، الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، إبان عهد مبارك، القاهرة، في حينه، إلى البحث عن بدائل لمواجهة هذا التعنت، حتى قبل شروعها في إقامة السد (إبريل/ نيسان 2011). وبالطبع، كان البديل السياسي هو الأساس، لكن يبدو أنه وصل إلى طريق مسدود بسبب المراوغة التي تجيدها إثيوبيا، وهو ما دفع وزير 
الري المصري، قبل فترة وجيزة، إلى إعلان فشل المفاوضات. أما البديل القانوني، التحكيم الدولي، فاصطدم برفص أديس أبابا له. وبالتالي، كان لا بد من التفكير في مجموعة من البدائل لحلحلة الموقف الإثيوبي. ومنها توطيد العلاقات مع إريتريا الخصم اللدود لإثيوبيا، مع الإظهار"العلني" أن هذا التحسن لن يكون على حساب أديس أبابا، بل سيكون استمرارا للسياسة المصرية التي لعبت دورا مهما في الوساطة بين الجانبين عام 2004، لكن هذا التوجه كان له بعد آخر غير معلن، دعم المعارضة الإثيوبية من قومية الأورومو والأمهرة والموجودة في إريتريا، من أجل إحداث حالة من القلاقل داخل أديس أبابا، بل والتواصل أيضا مع قبائل بني شنقول في إثيوبيا، والتي يقع السد في نطاقها للغرض نفسه. كما كان من ضمن محاور هذه الاستراتيجية المقترحة من خبراء وباحثين وأكاديميين في حينها، توطيد العلاقات كذلك مع دول الجوار الإثيوبي، خصوصا السودان وجنوب السودان والصومال. حيث كان مطروحا في حينها ضرورة البحث عن إطار تكاملي بخصوص حلايب وشلاتين، وكذلك محاولة استئناف مشروع قناة جونجلي مع جنوب السودان بديلا مؤقتا لعلاج مشكلة نقص المياه، وأيضا توطيد العلاقات مع الصومال، خصوصا الأوغادين الذين هم على خلاف مع أديس أبابا لضمها إقليمهم منذ فترة، خصوصا بعد حرب 1978. لكن يبدو أن هذه الاستراتيجية وهذه الرهانات المطروحة منذ مبارك، والتي سار السيسي عليها جزئيا، تحتاج إعادة تقييم الآن، لبيان مدى فاعليتها وتحقيقها الأهداف المرجوة، وكذلك بحث جوانب الاستمرارية والتغيير التي يمكن أن تطرأ عليها. فمصر لم تحسن العلاقة مع الصومال، بل أيدت التدخل والغزو الإثيوبي للبلاد عام 2006، نكاية في المحاكم 
الإسلامية، كما لم تحسن علاقتها مع السودان، بل راح نظام السيسي يدعم متمردي دارفور وجنوب السودان، ما جعل الخرطوم تبتعد عن الموقف المصري في شأن سد النهضة، وتميل، بل وتتبنّى الرواية الإثيوبية بعدم وجود أثار سلبية له. وبالنسبة لإثيوبيا، كشف رئيس وزرائها الراحل، ميليس زيناوي، في العام 2010، دعم مصر الأورومو. وتجدد الأمر في اضطرابات الأورومو التي شهدتها البلاد نهاية عام 2016، ما كان له بالغ الأثر في تفسير التعنت الإثيوبي بصفة عامة، سيما ما يتعلق بالسد. لكن يبدو أن مصر ماضيةٌ في مثل هذه السياسة، ولا ترغب في تغييرها، أو إعادة تقييمها، فأرسلت القاهرة أخيرا قوات ومعدات عسكرية لإريتريا، في خطوة فسرت بأنها تستهدف إثيوبيا، بل والخرطوم أيضا، ما دفعهما إلى غلق الحدود مع أسمرا، وإعلان حالة الاستنفار العسكري، ناهيك عن التنسيق الأمني بينهما بموجب معاهدة الدفاع المشترك.
تحتاج هذه التحركات والرهان على إريتريا تحديداً إعادة تقييم، سيما في ظل آثاره السلبية العكسية التي برزت في تصعيد الخرطوم وأديس أبابا ضدها أخيرا. ولعل نقطة البدء في هذا الشأن محاولة التهدئة مع السودان، والبحث عن تسوية لقضية حلايب، وقبلها وقف التراشق الإعلامي، فمن شأن ذلك تحييد الخرطوم حدا أدنى، أو قيامها بالوساطة تجاه إثيوبيا، وكذلك عدم توقيعها المزمع على اتفاقية عنتيبي. ويتطلب الأمر سحب القوات من إريتريا، بعدما اكتشف أمرها، فضلا عن تحسين العلاقات مع الصومال الذي بات مرتعا للنفوذ التركي. ربما تساهم هذه الأمور وغيرها في تقليل حدة الاحتقان، والحشد ضد مصر، في منطقةٍ تمس أمنها القومي بصورة مباشرة.. فهل من مجيب؟
B8DDCC55-8075-41F9-A617-4F3EA9A3A8C9
بدر شافعي

كاتب وباحث مصري، يحمل الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، له كتابان عن تسوية الصراعات في إفريقيا، وعن دور شركات الأمن في الصراعات.