لعنةُ المريول

لعنةُ المريول

21 سبتمبر 2014
الفرار من قيود المدرسة.. طريق مسدود (Getty)
+ الخط -
في مدرستنا المختلطة، قبل حوالى عشرين سنة، لم يكن على الأولاد الذكور أن يرتدوا اللباس المدرسي المعروف بالمريول.
نحن فقط، البنات، كان مفروضاً علينا أن نرتديه.
فنحن سنتعرّض لسهام العيون ونيرانها، ونحن سنشتت انتباه الأولاد وحتى المدرّسين... نحن مشروع "فتنة" يجب اجتثاثها من جذورها.
الشروط بسيطة. قماش أزرق سميك، نتركه لخيّاطة الحيّ أو العائلة لتخيطه لباساً يشبه كيساً واسعاً بأزرار أمامية وأكمام طويلة، يحجب أجسامنا عن العيون المتطفّلة.
مريول "يحشمنا" ويلجم أجسادنا الناهدة، قبل أن يخطر لها، وإن من دون قصد، أن تفكّر في الفرار من قبضة ذوينا ومعلّمينا.

أيّ خيّاطة، مهما كانت مقرّبة من التلميذة، لن تبذل جهداً لإبداع "مريول" جميل، أو أنيق. البنت المهذّبة هي تلميذة نكرة، لا تلفت النظر ولا تثير الإعجاب إلا بالتزامها بالنظام واجتهادها في الدراسة، هذا عُرف أقوى من القانون.
لكنّنا لم نستسلم. 
كانت بيننا فتاة ودودة اسمها نجاة، تشبهنا في كلّ شيء تقريباً، غير أنّها كانت خيّاطة موهوبة. علّمتها أمّها الحرفة باكراً، كي تتولّى خياطة ملابسها وملابس أخوتها، وتخفّف من عبء المصروف.
لم تكن نجاة تقوم بالخياطة رغماً عنها، بل كانت تحبّ ما تقوم به. أدركنا ذلك حين اكتشفنا سرّها المسطور في دفتر الرسم. فقد كرّست دفترها ذاك لرسم فساتين وتصاميم لأزياء متنوّعة، تشبه ملابس أميرات الحكايات الخرافية.
أجمل ما في تلك التصاميم كانت الشفاه المبتسمة التي رسمتها نجاة للعارضات المفترضات. لقد حاولتُ أمام المرآة أن أقف وأبتسم تلك الابتسامة، متخيّلةً نفسي بفستان من فساتين الأحلام، فضبطتني أمّي بالجرم المشهود، واستجوبتني حول الشخص الذي أبتسم له من الشباك!! "لا والله ما في حدا يا ماما!"، عبثاً توسّلت. 
صارت نجاة قشّة نجاتنا من الغرق في بحر القماش الأزرق السميك. صنعت لمراويلنا "بنسات"، تلك التي تنحّف المريول عند خصره، وصنعت لها "كسرات" عند الأفخاذ، وصنعت لبعضنا الآخر "تطريزات" عند الجيوب والقبّات، أما أفدح ما قامت به فهو تقصير المريول! جميع البنات طلبن تقصير مراويلهن، بعضهنّ بالغن ورفعنه فوق الركبة، والمتهوّرات جعلنه كقميص طويل لا يتخطّى منتصف الفخذ! صارت التلميذات أكثر سعادة. لفتت سعادتُنا الآخرين، الذين لاحظوا أيضاً أنّنا بتنا أكثر جمالاً وربما أنوثة. وبات للكثيرات بيننا معجبون تبادلوا معهن الرسائل المنزوعة أوراقها من دفاتر الخطّ والحساب، المرصّعة بالقلوب والأسهم والزهور، المزيّنة بكلمات الأغنيات العاطفية من حليم إلى كاظم الساهر.

باتت نجاة خطراً أهلياً! مُنعت من التدخّل بأيّ مريول أزرق. مُنعت بكلمات جارحة وليس بعنف جسدي. قيل لها إنها تملك ميلاً نحو الانحراف، تحديداً حين وقع دفتر الرسم الذي حفظت فيه تصاميمها الحالمة بين يدي والدها. الخصور المنحوتة والأرداف البارزة وقبّات الفساتين المفتوحة فوق الصدر والدانتيل فوق الأكتاف... كلّها تثبّت التهمة على نجاة: فلتان أخلاقي.
لم ترتدِ نجاة مريولاً جميلاً بعد ذلك اليوم. لم ترتدِ أيّ مريول. مُنعت من المدرسة. صارت خياطة متفرّغة. تزوّجت وأنجبت... وحين أرادت ابنتها ذات السنوات الستّ الاعتراض على مريول المدرسة الرمادي الذي يشبه التشادور، نهرتها قائلة: "انتي رايحة ع المدرسة مش ع سهرة! أوعي تفكّري إنّك ممكن تذلّينا!"
بكت الطفلة رغم أنّها لم تفهم تلك الكلمات. الطريق نحو البسمة بدا طويلاً وشاقّاً.

دلالات

المساهمون