لا شرعية ثورية ولا انتخابية في فلسطين

لا شرعية ثورية ولا انتخابية في فلسطين

03 يناير 2018
+ الخط -
يمكن التمييز في التاريخ السياسي والنضالي الفلسطيني بين الشرعيتين، الثورية والانتخابية. فلطالما اعتمدت الحركات الفلسطينية على مفهوم الشرعية الثورية الذي يُغدق على الحركة صفة تمثيلية للشعب، ولمصالحه، نظرا لانخراطها بالعمل النضالي، ولاستعداد قادتها وكوادرها للتضحية واحتمال المعاناة واجتراح الصعاب في سبيل إحقاق حقوق الشعب وحرية مصيره. أما مفهوم الشرعية الانتخابية فينتقل بنا من حركات التحرير إلى الأحزاب السياسية التي تتنافس على أصوات المواطنين، في سياق صراع على السيطرة على مؤسسات الدولة والتوظيف فيها من ناحية، وتنفيذ سياساتٍ معينةٍ لا غيرها، يفضّلها مجموع من المواطنين، وليس كل الشعب، نظرا لانعدام الإجماع. والفرق الأساسي هنا هو بين مفهوم سيادة الشعب، كيانا جماعيا يعبّر عن مصلحة عامة، وسيادة الشعب بوصفها مجرد محصلة حسابية لمجموع الأفراد العددي، ناخبين لا غير. ولا تتوقف إشكالية المفهوم الانتخابي للشعب على أن الشرعية الانتخابية في حالة الشعب الفلسطيني تسقط من حساباتها اللاجئين الفلسطينيين من الدائرة الانتخابية، وبالتالي من تمثيل مصالحهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية. كما أنها لا تتوقف على الانقسام بين السلطتين في غزة ورام الله، ما يجعل الشرعية الانتخابية مجتزأة، حتى في حدودها الضيقة. فالمشكلة أعوص من ذلك، إذا أخذنا بالحسبان أن الانتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية لم تتجدّد منذ عام 2005، ومن ذلك الحين والرئيس الفلسطيني يمدّد لنفسه مدة حكمه بشكل أحادي، على الرغم من تصريحاته مراتٍ عن نيته الاعتزال، وعلى الرغم من تقدمه في العمر. كما أن الانتخابات للمجلس التشريعي لم تجر منذ عام 2006. ومن هنا تكون حكومتا رام الله وغزة بلا شرعية انتخابية، وإنما بقوة الأمر الواقع والسطوة، بل تمّ تقليص الشرعية الانتخابية لأبو مازن إلى حدود حركة فتح، حيث تمّ اختياره رئيسا للحركة خمس سنوات مقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
على أي حال، المشكلة الأساسية في الشرعية الانتخابية مزدوجة: غياب وحدة الشعب الجغرافية 
والسياسية، وكذلك افتراض التذرير بديلا لوحدة الشعب المفترضة. لذا، تبدو الانقسامات نتيجةً طبيعيةً لإعطاء الأولوية للنظام الانتخابي، على الرغم من عدم التحرير. ومثلما حاولت أطراف عربية وأجنبية استغلال الخلافات الفلسطينية إبّان الحراك الثوري، نراها تقوم بالأمر نفسه إبّان الجمود التفاوضي، فقبل عقد دعم الأميركيون محمود عباس ضد ياسر عرفات، والآن تدعم قوى خليجية منافسا للرئيس عباس في "فتح" نفسها.
كان يمكن للشعب الفلسطيني أن يغفر هذه التجاوزات، لو تمّ تعويضها بالشرعية الثورية والنضال، لكن هذه الشرعية مختفية عن الأنظار، ذلك أن الحركات الفلسطينية، ومنذ انخراطها بمشروع أوسلو، بمن في ذلك حركة حماس التي فازت برئاسة الحكومة ضمن إطار "أوسلو"، ضحّت بضرورات النضال لضرورات الحكم أو البقاء. كما انخرطت السلطة الفلسطينية في رام الله بالمشروع الأمني الأميركي الإسرائيلي، واعتمدت بالكامل على الدعم المالي الأوروبي والأميركي بشكل خاص. ووقفت السلطة الفلسطينية مراتٍ مكتوفة الأيدي أمام الهجمات الإسرائيلية الوحشية على غزة. بل وقفت تنتظر الاستفادة من نتائج الحصار الإسرائيلي المصري الطويل والخانق على غزة، لكي تعيد "حماس" المفاتيح صاغرة إلى أيدي "فتح"، من دون مصالحة حقيقية بين الحركتين، ومن دون إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية بما يضمن تمثيلا ملائما للحركات الإسلامية. كما وقفت عاجزة والقدس وحيدة على موائد اللئام.
ومن تناقضات خطاب بناء المؤسسات وخطاب الشرعية الانتخابية أنه يقوم بالممارسات نفسها التي لطالما انتقد التوجّه الثوري بسببها. فإشكالية الشرعية الثورية أنها قد تهمش المؤسسات، وتتغاضى عن انعدام الديمقراطية الداخلية داخل الحركات، بدعوى سرّية العمل وثوريته. كما انتقد هذا التوجه مركزية القيادات وفردانيتها، وشخصنة القرار السياسي. ولكن ما رأيناه منذ اعتلاء أبو مازن الحكم على أنقاض محاصرة عرفات الدولية، والمحاصرة الإسرائيلية في المقاطعة، أن كل هذه النواقص موجودة في ممارسة السلطة، فالمؤسسات معطلة والرئيس غير منتخب ويحكم يشكل متسلط ويقمع معارضيه. وإذا كانت هذه النواقص حجة في فترة العمل الثوري، فلا حجة لها فترة انعدامه. وإذا كان الخطاب المؤسساتي والمعتدل ينعى على الشرعية الثورية إخفاقاتها على الرغم من غابة البنادق، وعلى الرغم من شعاراتها العالية، فلم يحقق تيار أوسلو، منذ منتصف التسعينيات إنجازات تستحق الذكر. بالعكس، زاد عدد المستوطنين والمستوطنات أكثر، وحظيت هذه التغييرات على أرض الواقع بشرعية "عملية السلام" وغطاء المفاوضات التي لم تفضِ إلى شيء يذكر. وأكثر من ذلك، أوجدت عملية أوسلو ونظامها الاقتصادي والسياسي نظاما اجتماعيا موازيا، لا يحمل عبئا نضاليا، ولا يأبه لانعدام الشرعية الانتخابية. باختصار، مع أن التوجّه الثوري كان قاصرا من ناحية الإنجازات، فإن التوجه الانتخابي لا يستطيع أن ينسب لنفسه لا تحقيق إنجازات، ولا بناء مؤسسات.
وإذا كان التوجّه الثوري يستحق المراجعة والتحليل النقدي، فإنه على الأقل كان أدقّ بالتحليل 
وتشخيص المشكلة، ذلك أن المشكلة هي الاحتلال، والواجب هو مجابهته، ومقاومة القمع اليومي والعنف الممأسس. أما التوجّه الذي يدعيّ اعتماد الشرعية الانتخابية بغير وجه حق، فإنه يواصل الحكم والتفاوض ومحاولة بناء المؤسسات والاقتصاد كأن الاحتلال غير موجود. وفي حين كان التوجّه الثوري، في بداياته على الأقل، يهدف إلى الحرية وحق تقرير المصير، فإن النظام السياسي الحالي يقلّص الهدف إلى الدولة، وبالتالي يقود إلى صنمية الدولة. ذلك أن الدولة أصبحت الهدف بحد ذاتها، كأنّ مجرد حدوثها سيضمن الحرية وحق تقرير المصير والعيش الكريم لأبناء الشعب. في حين أن المفروض أنّ الدولة أداةٌ لهدف الحرية. ولذا، فإن تحويلها إلى غاية مستقلة يعني إهمال توفر الشروط الضرورية واللازمة لتحقيق الدولة للأهداف المرجوة من قيامها. وبذلك، الخطر هو وجود الدولة بدون الاستقلال، ووجود مظاهر الحرية بدون زوال الاستعمار.
خلاصة ما تقدّم، أن النهج الحالي للنخب السياسية الفلسطينية الذي يقدم نفسه بديلا لما سبق من نضال يعيد تكرار الآفات نفسها التي يدّعي تجاوزها، والإخفاقات نفسها التي يزعم التحرّر منها. والمشكلة الحقيقية الآن ليست الخيار ما بين الثورة أو التفاوض، وما بين الشرعية النضالية أو الانتخابية. إن أيّ مسار يختاره الفلسطينيون قد يكون محفوفا بالمخاطر ومعرّضا للانتكاسات. الإشكالية الحقيقية هي انعدام البوصلة الموجهة للنضال بأشكاله كافة. ولذا ترى السياسة الفلسطينية تراوح ما بين دوغمائية الكفاح المسلح ودوغمائية المفاوضات، وعلينا أن نتجاوز هذه الثنائية، وننزع القناع عن وجه السلطة التي تتحجج بهزائم الثورة، لكي تُخفي عجزها وانهزاميتها.